الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، أما بعد:
شهر رمضان هو شهر الجهاد والتضحية ، والعز والتمكين ، وإن تاريخ المسلمين الزاخر بالأمجاد ليحدثنا عن جهاد المسلمين في شهر النصر أحاديث كتبت بنور الإيمان ودماء الشهداء الأبرار ، كما يحدثنا عن صور البطولة والعز ، والمجد الذي بناه السلف وضيّعه الخلف.
وحديثنا عن معركة من معارك المسلمين الخالدة التي دارت رحاها في هذا الشهر الكريم ، ألا وهي معركة " بدر الكبرى " ، فقد كان يوم بدر يوم الفرقان بين أهل الكفر وأهل الإيمان ، كما قال تعالى { إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان } [سورة الأنفال:41].
وكان يوم بدر فرقاناً بين مرحلتين من تاريخ المسلمين وتشريعهم ، مرحلة الصبر على الأذى وتحمل الشدائد والصعاب ، والصبر على التعذيب والإهانة ، وبين مرحلة تشريع القتال وإيجابه ومشروعية تعقب أهل الكفر كما قال تعالى { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير } [سورة الحج:39] ، وقال تعالى: { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد } [سورة التوبة:25] ، وقال تعالى { فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون } [سورة التوبة:12] ، وقال تعالى { وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة } [سورة التوبة:36] ، وقد استقر على ذلك التشريع دون نسخ أو إنساء.
ومعركة بدر كانت مثالاً رائعاً للشجاعة النادرة التي يبذلها أهل الإيمان ومن يوقنون بوعد الله تعالى وفي ذلك يقول الله تعالى { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم } [سورة التوبة:111]. أولاً : وقائع الغزوة :
إن معركة بدر لموقعة تستحق أن تكتب أحداثها بحروف من نور ، وأن يقف عندها التاريخ طويلا موقف إجلال وتأمل ، فقد خرج فيها المسلمون لا يزيد عددهم عن الثلاثمائة إلا قليلا ، ولم يُعِدّوا للأمر عدّته ، ولم يتخذوا له أهْبَتَه فلم يكن معهم إلا فَرَسان فرس للزبير بن العوام وفرس للمقداد بن الأسود ، وسبعون بعيراً يتعاقب الرجلان والثلاثة منهم على البعير الواحد ولم يحملوا معهم من السلاح إلا ما خف ، فلم يكن قصدهم القتال بل كانوا يقصدون العير [1] ،وبعد انفلات عير أبي سفيان وبلوغ ذلك إلى أهل مكة ، أخذهم الكبرياء وحب الفساد والغطرسة ، فقال طاغيتهم أبو جهل: ( والله لا نرجع حتى نَرِد بدرا فنقيم بها ثلاثا ، نشرب الخمر وننحر الجزور وتعزف لنا القيان وتسمع بنا العرب بمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبدا ) ، { ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } [سورة الأنفال:30].
ونقلت استخبارات دولة الإسلام خبر قدوم قريش بقضّها وقضيضها وطواغيتها وفرسانها المدججين بالسلاح ، يدفعهم الغلُّ على أهل الإسلام ، يريدون استئصال شأفتهم وتدمير دينهم وهدم دولتهم ، فعقد النبي صلى الله عليه وسلم مجلسه العسكري الاستشاري لاستطلاع رأي قادة الجيش وأهل المشورة ، فتكلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه فأحسن فدعا له النبي بخير ، وقام عمر الفاروق رضي الله عنه فتكلم فأحسن فدعا له بخير ، وما زال النبي صلى الله عليه وسلم يقول أشيروا علي أيها الناس.
وهنا تجلت أعظم صور الحب لدين الله وللنبي صلى الله عليه وسلم والتضحية والفداء فقام المقداد بن عمرو رضي الله عنه فقال بثبات المؤمن الصادق متحدثا بلسان قومه ، كلمات لم يعرف التاريخ لها مثيلا: "يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق نبيا لو سرت إلى برك الغماد لسرنا معك" ، وهنا تهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له ولقومه بالخير.
وما زال النبي صلى الله عليه وسلم يكرر على الناس قوله: (أشيروا علي أيها الناس) ، فقام سعد بن معاذ رضي الله عنه ، وكان حامل لواء الأنصار وزعيمهم ، فقال بلسان الواثق بوعد الله تعالى ، الواثق من موقف قومه أهل الصدق والبطولة والفداء: (لعلك تريدنا يا رسول الله [2] ، قال: أجل ، فقال سعد رضي الله عنه : فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فوالله لا يتخلف عنك اليوم منا رجل واحد ، ولو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا ، إنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء ، ولعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة الله) ، فسُر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد فقال: { سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم].
ولقد جعل الله تعالى لنصر المؤمنين في هذه المعركة علامات ثبت بها قلوب أوليائه ، وزلزل بها قلوب أعدائه ، فأنزل الله تعالى عليهم النعاس أمنةً منه ، كما أنزل المطر فكان على المؤمنين طلاّ خفيفاً ، طهرهم به وثبت قلوبهم وأرجلهم ، وثبت به الأرض من تحت أقدامهم ، وأذهب عنهم به رجز الشيطان ، وكان على المشركين وابلاً شديداً منعهم من التقدم والعمل ، وكانت هذه أول أمارات وإرهاصات سير المعركة ونتيجتها ، قال تعالى { إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام } [سورة الأنفال:11].
وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجيش الإيمان.
وهنا يروي أهل السّير أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل أدنى ماء من مياه بدر ، فأشار عليه الحباب بن المنذر رضي الله عنه كخبير بالمواقع العسكرية بعد أن عرف أن نزول هذا المنزل ليس عن وحي ولكنه اجتهاد من القائد الأعلى ، فقال الحباب: يا رسول الله إن هذا ليس بمنزل فانهض بنا حتى نأتي أدنى ماء من القوم يعني قريشا فننزله ونغور نخرب ما وراءه من القُلُب ثم نبني حوضا نملأه ماء فنشرب ولا يشربون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد أشرت بالرأي.
واقترح سعد بن معاذ في هذه الغزوة المباركة أن يبنى للنبي صلى الله عليه وسلم عريشا يقود منه المعركة ويصدر منه الأوامر ويشرف منه على مكان المعركة فأثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير وتم بناء العريش للنبي صلى الله عليه وسلم وانتخبت فرقة من شباب الأنصار لحراسة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقضى النبي صلى الله عليه وسلم ليله كله في ذكر لله تعالى وتسبيح ودعاء ، أن ينزّل نصره على هذه العصابة الضعيفة التي تدافع عن دينه وحرماته ، وظل النبي صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ويتضرع إليه حتى سقط الرداء عن منكبه ، فقال له الصديق أبو بكر رضي الله عنه : (هون عليه يا رسول الله كفاك مناشدتك ربك لقد وعدك الله إحدى الطائفتينِ).
وقضى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليلتهم في هدوء وسكينة ، ولما انبلج الفجر وظهر ضوء النهار نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أعدائه وقال: (اللهم إن هذه قريشا قد أقبلت بخيلائها وفخرها تُحادك وتُكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني اللهم أحنهم الغداة) ، ثم عدّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف وأمر جنده أن لا يبدءوا القتال حتى يتلقوا منه الأمر بذلك.
أما المشركون فقد استفتح لهم طاغوتهم قائلا: ( اللهم أقطعنا للرحم ، وأتانا بما لا نعرفه ، فأحنه الغداة ، اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليوم) ، وفي ذلك يقول الله تعالى { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين } [سورة الأنفال:19].
وكان من أوائل ما أشعل نار المعركة أن خرج ثلاثة من فرسان قريش وهم عتبة وأخوه شيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة طالبين للمبارزة ، فخرج إليهم ثلاثة من شباب الأنصار وهم عوف ومعوذ ابنا الحارث وعبد الله بن رواحة ، فقالوا: من أنتم؟ ، قالوا: رهط من الأنصار ، قالوا: أكفاء كرام ما لنا بكم حاجة إنما نريد بني عمنا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( قم يا عبيدة بن الحارث ، وقم يا حمزة ، وقم يا علىّ) ، فلما دنوا منهم وعرفوهم فقالوا: إياكم نريد ، فبارز عبيدة وكان أكبر القوم عتبة بن ربيعة ، وبارز حمزة شيبة ، وبارز عليّ الوليد ، فأما حمزة وعليّ فلم يمهل كل منهما قرينه حتى أجهز عليه ، وأما عبيدة فاختلف بينه وبين قرينه ضربتان ، فأثخن كل واحد منهما صاحبه ثم كرّ علىّ وحمزة على عتبة فقتلاه واحتملا عبيدة وقد قطعت رجله ، فلم يزل كذلك حتى مات في طريق العودة إلى المدينة ، وكان علي رضي الله عنه يقسم بالله أن هذه الآية نزلت فيهم { هذان خصمان اختصموا في ربهم } [سورة الحج:19].
وحمي وطيس المعركة وسط مناشدة النبي صلى الله عليه وسلم لربه واستدارت رحى الحرب والنبي صلى الله عليه وسلم يناشد ربه قائلا: { اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض بعد اليوم] ، وأوحى الله إلى ملائكته { أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } وأوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم { أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين] ، ثم أغفى النبي صلى الله عليه وسلم إغفاءة ثم رفع رأسه فقال: { أبشر يا أبا بكر هذا جبريل على ثناياه النقع أي الغبار آخذ بعنان فرسه يقوده] ، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عريشه وهو يَثِبُ في الدرع ويقول { سيهزم الجمع ويولون الدبر } ، وأخذ حفنة من التراب ورماها في وجوه المشركين ، فما منهم من أحد إلا وأصابه منها شيء ، وفي ذلك أنزل الله تعالى قوله { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يحرض أصحابه على القتال قائلا: ( والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة ) ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : ( قوموا لجنة عرضها السماوات والأرض ) ، وحينئذ قال عمير بن الحمام: بخ بخ ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما يحملك على قولك بخ بخ؟ ) ، قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( أنت من أهلها ) ، وأخذ عمير تمرات كن في قرنه فألقى بها قائلا: لئن عشت حتى آكل تمراتي هذه إنها إذاً لحياة طويلة ، ثم قاتلهم حتى قتل رضي الله عنه .
وسأل عوف بن الحارث نبي الله صلى الله عليه وسلم قائلا: يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده؟ ، قال: ( غمسه يده في العدو حاسرا ) ، فنزع درعا كانت عليه فقذفها ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل رضي الله عنه .
وبدأت أمارات الفشل والاضطراب تظهر في صفوف المشركين بعدما نزلت الملائكة تقاتل مع المؤمنين وانسحب إبليس نصير المشركين بعد ما وعدهم بإعانتهم ثم خذلهم وقد جاء في صورة سراقة بن مالك المدلجي من المعركة ، وأخذت جموع المشركين في الفرار من وجه جند الله المؤمنين ، غير أن طاغوت المشركين أبا جهل أظهر تجلدا أمام قومه داعياً إياهم إلى الصمود والتصدي لهجمات المؤمنين ، وما لبث إلا قليلا حتى أخذت الجموع تهرب والصفوف تتصدع أمام هجمات أهل الإيمان.
وهنا نسجل صورة من صور الفتيان الأبطال من المسلمين في قتال أئمة الكفر فبينما كان عبد الرحمن بن عوف بين غلامين صغيرين إذ قال له أحدهما سراً: يا عم أرني أبا جهل ، فقال له: يا أبن أخي وما تصنع به؟ ، قال: أُخبرت أنه يسب النبي صلى الله عليه وسلم ، فوالذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سوداه حتى يموت الأعجل منا ، فتعجب عبد الرحمن بن عوف لذلك ، فغمزه الثاني قائلا له مثل ما قال الأول ، قال عبد الرحمن رضي الله عنه : فلم أنشب أن نظرت فإذا أبو جهل يجول بين الناس فأشرت إليهما وقلت لهما هذا صاحبكما ، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى أثخناه ، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرانه الخبر ، واحتزّ ابن مسعود رأس طاغية قريش وأتى بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم : ( الله أكبر ، الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده) ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : (هذا فرعون هذه الأمة).
وصور أخرى من صور الولاء والبراء تتمثل في موقف مصعب بن عمير بعد انتهاء المعركة من أخيه أبي عزيز بن عمير الذي خاض المعركة ضد المسلمين ثم وقع في الأسر ، مر به وأحد الأنصار يشد يده ، فقال مصعب للأنصاري: شد يدك به فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك ، فقال له أخوه: أهذه وصاتك بي؟ ، فقال مصعب: إنه أخي دونك.
وهكذا انتهت المعركة الفاصلة بنصر مبين للمسلمين ، وهزيمة ساحقة للمشركين كما لحقتهم خسائر فادحة حيث قتل منهم سبعون وأسر سبعون أكثرهم من القادة والصناديد.
وأما المسلمون فقد استشهد منهم أربعة عشر رجلاً ، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار ، وقد تجلت نعمة الله على المسلمين في هذه الغزوة بالنصر والتمكين بعد الضعف ، وبالأمن والطمأنينة بعد الخوف ، وذلك فيما حكاه القرآن حيث قال تعالى { واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون } [سورة الأنفال:26].