القائد ألب أرسلان .. ومعركة ملاذ كورد
23 / 10 / 2016
بقلم : أبو ياسر السوري
===============
1 - هنالك أبطال تلمع أسماؤهم ، وينتشر ذكرهم ، حتى يطبق الآفاق ، تتناقله الأجيال ، ويتدارس سيرتهم الرجال .. فيسري في كيان الأمة روح من العزة والقوة .. لعله هو السر في توارث الرجولة والبطولة بين خلف الأمة وسلفها جيلا بعد جيل .. هل تظنون أني سأحدثكم عن سيف الله خالد بن الوليد ، أو أمين الأمة أبي عبيدة عامر بن الجراح ، أو فارس تميم القعقاع بن عمرو الذي كان عمر بن الخطاب معجبا به ، حتى قال مرة فيه : لصوت القعقاع في الكتيبة أحب إلي من الكتيبة نفسها ..
على أني لو تخيرت الحديث عن أحد هؤلاء الأبطال ، فلن أتجشم أي عناء في استحضار الطريف والتالد ، من سجلهم الخالد ، المحفوظ في سفر الزمن ، كنزاً ثمينا لا يأتي عليه البلى ، ولا يتطرق إليه النسيان .. ولكني آثرت أن أحدثكم عن قائد إسلامي فذ .. وعن معركة خاضها بقلة قليلة من أصحابه ، فانتصر فيها على جيش عرمرم مدجج بالسلاح .. إنه القائد السلجوقي المسلم ألب أرسلان ، صانع النصر الكبير في معركة ملاذ كورد عام463 هـ أي قبل 974 سنة مرَّت .. التي ما زالت محفورة في ذاكرة التاريخ إلى ما شاء الله من قرون ..
2 – والذي دعاني إلى اختيار الحديث عن هذه المعركة ، وقوعها في فترة زمنية مظلمة في حياة الأمة ، فترة لا يتوقع فيها أن تنتصر الأمة مثل ذلك النصر ، لأنه كان ضربا من المستحيل .. فالبلاد الإسلامية منقسمة على نفسها ، مشغولة في خلافات مستمرة بين أمرائها ، والخليفة العباسي اسم بدون مسمى ، لم يعد له سلطان على أحد ، ولا يملك من أمر الأمة إلا الدعاء التقليدي له من فوق أعواد المنابر .. يدعون له ويحتقرونه . بل وما أيسر أن يقتل الخليفة في أية لحظة غضب من أحد أمراء المماليك .. والأنكى من ذلك أن الشيعة كانت صاحبة السيطرة العظمى على أغلب البقاع الإسلامية .. تماما كما هي حال المسلمين اليوم ، وما أشبه الليلة بالبارحة .!!
3 – في عام 455 هـ توفي الملك السلجوقي الأكبر طغرل بك ، فخلفه على الملك ابن أخيه ألب أرسلان ، فحمل الأمانة وأداها على أكمل الوجوه ، فحافظ على تراب الدولة السلجوقية التي أرسى عمه الراحل دعائمها .. ثم بدا لهذا القائد أن يفتح جورجيا ، ليأمن شر الأرمن الذين كانوا يشنون الغارات المتتابعة على بلاده ، ففتحها واستولى على أجزاء واسعة من بلاد الروم .
4 – وهذا ما غاظ ملكة أرمينيا ، التي كانت قد تزوجت من القائد العام لقواتها رومانوس ، وكان اختيارها الزواج منه لكونه فارسا عنيدا ، وبطلا صنديدا .. وقد قام بدوره بما يؤكد للإمبراطورة أنها قد وفقت في هذا الاختيار ، فقد حشد رومانوس لقتال المسلمين 200 ألف مقاتل من متعصبي الصليبيين ، من الفرنجة والروس والبلغار والبشناق واليونان والفرنسيس .. وتوجه بهذا الجيش العرمرم .. للقضاء على دولة السلاجقة ، أكبر قوة إسلامية في ذلك الزمن ، وهو يعلم أنه إذا تمكن من القضاء على تلك الدولة المسلمة ، فسوف يكون سهلا عليه بعد ذلك السيطرة على كل المسلمين ، واحتلال عواصمهم ، وتخريب مدنهم المقدسة من بيت المقدس إلى مكة فالمدينة ..
5 – كان ألب أرسلان معسكرا في مكان اسمه ملاذ كورد ، فسمع بما يبيت له رومانوس .. فكاتب الخليفة العباسي ، يطلب منه مددا من الرجال ، فلم يجد لديه سوى رجال المراسم والحامية البسيطة التي لا تزيد عن3 آلاف رجل ، ولا يمكنه الاستغناء عنهم .. فاستشار أهل الحل والعقد من علماء المسلمين ، فأشاروا عليه بأنه إنما يقاتل عن دين تكفل الله بنصره .. وقالوا له كما قال المؤمنون مع طالوت : " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين"
وأدرك القائد المسلم أنها هنالك معركة غير متكافئة تفرض عليه وعلى رجاله ، فأرسل إلى رومانوس يطلب منه عقد هدنة ويدفع له بموجبها أموالا طائلة .. ولكن القائد الروماني رفض أن يجيبه إلى طلبه ، وأرسل إليه يقول : نكتب المعاهدة في عاصمة ملكك في الريِّ ..
وهنا أيقن ألب أرسلان أنه لا مفرّ من مناجزة القوم .. فجمع الجند وخطب فيهم قائلا : " يا جند الإسلام ، إن دينكم ومقدساتكم وأمتكم الآن في خطر ، وإن عدونا يريد استئصال شأفتنا ، والقضاء على كل مقدساتنا ، وإن تمكن منا فسوف يمحو هذه الأمة من الوجود .. ألا وقد استشرت واستخرت وقر قراري على أن أقاتل هؤلاء الأعداء ولو قاتلتهم وحدي ، فمن شاء منكم أن لا يقاتل فلينسحب ، ومن شاء القتال معي فليصحبي للقاء رومانوس وجنده ، فإن انتصرنا فذلك فضل الله ، وإن أكرمني الله بالشهادة فهذا كفني وحنوطي جاهزين ، وأكملوا معركتكم تحت قيادة ابني ملكشاه " . ثم بكى .. وبكى معه الجند . وتعالت أصواتهم بالتكبير ، وتعاهدوا على القتال حتى ينالوا إحدى الحسنيين ، إما النصر وإما الشهادة ..
6 – ثم وضع القائد السلجوقي خطة المعركة ، فاختار أن يبدأ القتال من الغد ، بعد صلاة الفجر من يوم الجمعة ليساعده المسلمون بالدعاء على المنابر .. وقام بتقسيم الجيش إلى شطرين .. أحدهما يشرع بقتال العدو ومواجهته ، ويتراجع أثناء القتال إلى الخلف قليلا ، قليلا ، لاستدراج البيزنطيين إلى مضيق خلف المسلمين بين جبلين ، اسمه " ملاذ كورد " فإذا تبعهم الجيش البيزنطي ، فدخل في ذلك المضيق ، صمد له المسلمون صمود الجبال الرواسي ، ومنعوه من التقدم للخروج من الطرف الآخر للمضيق .. وفي هذه اللحظة يلتف عليهم القائد ألب أرسلان بالشطر الثاني من الجيش ، فيغلق عليهم فم المضيق ، ويصبح الجيش البيزنطي الضخم في ميدان ضيق لا يتمكن فيه من الحركة .. وهنا يبدأ الرماة الذين وزعوا على جانبي الوادي عملهم ، فيرشقون الأعداء بوابل من النبال ، فيستحر القتل ، ويختلط الحابل بالنابل ، ويبلي المسلمون بلاء حسنا ، فيكتب الله لهم النصر .. وهذا ما كان .. فقد نصر الله المسلمين ، وغلبت الروم ، ووقع رومانوس أسيرا .. وسيق مكبلا ليركع أمام السلطان ألب أرسلان .. فيسأله : ماذا كان لي منك لو كنت أنت الآسر .؟ قال : شر كبير . قال وما تظن أني فاعل بك .؟ قال : القتل . أو التشهير والإذلال ثم القتل . أو العفو وقبول الفدية . وهذا ابعد الاحتمالات ..
فقبل منه الفداء على مليون ونصف المليون من الدنانير الذهبية .. وكتبا معاهدة صلح بين الطرفين تستمر 50 عاما .. وتدفع الروم للمسلمين بموجبها أموالاً طائلة في كل عام ، ورده إلى بلاده ، ليلقى مصيره الأسود على أيدي قومه الذين لم يرحموه . فقد سمعوا بهزيمته وأسره ، فما إن عاد إليهم حتى قبضوا عليه ، وحكموا عليه بالخيانة العظمى ، فسُملت عيناه ، وقُتل ...
وكان من نتيجة هذه المعركة ، أن أصبحنا نحن الذين نغزوا الروم بعدها ولا يغزوننا ، بل وصار كثير منهم يدخلون في الإسلام انبهارا بقوة المسلمين ..
عدل سابقا من قبل أبو ياسر السوري في الثلاثاء أكتوبر 25, 2016 1:08 pm عدل 2 مرات