وقفات حول الخلافة الإسلامية
الوقفة الخامسة : شروط أهل الحل والعقد -  وصور الاستخلاف
21 / 4 / 2016
بقلم : أبو ياسر
=============
1 - شروط أهل الحل والعقد :
وأعني بهم وجوه الناس ، وكبراءهم وفقهاءهم وحكماءهم وذوي الرأي فيهم .. فهؤلاء هم المكلفون باختيار الخليفة ، لأن الأمر ينتظم بهم ويتبعهم فيه سائر الناس . فإذا لم يكن المبايِعُون بحيث تتبعهم الأمة فلا تنعقد الإمامة بمبايعتهم ، لأن مبايعتهم في هذه الحال ، قد تفتح أبوابا للنزاع والاقتتال بين المسلمين . واشتراط أن يكون أهل الحل والعقد ممن تتبعهم الأمة ، وتحترم قراراتهم ، مأخوذ من عمل الصحابة (رضي الله عنهم) في تولية الخلفاء الراشدين ، كما قال النووي رحمه الله .
ونفهم من هذا أن الخلافة شأنها خطير ، لا ينبغي أن يترك تدبيره للعامة ولا للغوغاء ، ولا ينبغي لغير أهل الحل والعقد إدخال أنفسهم فيه، ومن فعل ذلك فقد تجاوز حده ، وظلم نفسه قال صلى الله عليه وسلم  " رحم الله امرءاً عرف حده فوقف عنده " وقال صلى الله عليه وسلم : " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " وقد حذر من ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وعده من العلامات الصغرى لقيام الساعة ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ : قبيل الساعة سنون خَدَّاعَة ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ ، قِيلَ : وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ ؟ قَالَ : التَّافِهُ الذي يتحدث فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ .
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله [ ومن أهل الحل والعقد أمراء الأجناد وولاة الأقطار الكبرى مصر والشام وحمص والكوفة والبصرة . وإنما تصح المبايعة باتفاقهم ، أو اتفاق الرؤساء الذين يتبعهم غيرهم ، ومن لم يتبعهم بالاختيار ، سهل عليهم إكراهه بقوة الأمة على الطاعة والانقياد . . ومن رؤسائهم في هذا العصر قواد الجيش كوزيري الحربية والبحرية وأركان الحرب لهما . . ومتى تمت البيعة في العاصمة وجب أن تتبعها الولايات بمبايعة ولاتها إذا كانوا يُتبَعُون فيها ، وإلا وجب أن ينضم إليهم زعماء أهلها من العلماء والقواد وغيرهم ..]
وقد ذكر الفقهاء شروطا يجب أن تتوفر في كل واحد من أهل الحل والعقد :
حدها) العدالة .. وهي عند الفقهاء عبارة عن التحلي بالفرائض والفضائل ، والتخلي عن المعاصي والرذائل ، وعما يخل بالمروءة أيضاً ، واشترط بعضهم فيها أن تكون ملكة لا تكلفاً ، ولكن التكلف إذا التزم صار خلقاً ..
(الثاني) العلم .. وهو الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة على الشروط المعتبرة فيها . ويعنون به علم الدين ، ومصالح الأمة وسياستها ، وإذا أطلقوا العلم كان المراد به " مرتبة الاجتهاد في استنباط الأحكام " .
وهذا القيد يختلف باختلاف الزمان ، فإن استحقاق الخلافة في هذا العصر يتوقف على علومٍ لم يكن يتوقف عليها في العصور القديمة ، وقد ذكر بعض العلماء أن من مرجحات اختيار الصحابة لأبي بكر رضي الله عنه أنه كان أعلمهم بأنساب العرب وبأحوالهم وقواتهم ، ولأجل هذا لم يهب من قتال أهل الردة ما هابه عمر .
ولابد الآن للإمام وجماعة الشورى أعني بهم (أهل الحل والعقد) من العلم بالقوانين الدولية والمعاهدات العامة ، ولا بد لهم من معرفة أحوال الأمم والدول المجاورة لبلاد الإسلام ، وللدول ذات العلاقات السياسية والتجارية بدار الخلافة ، من حيث سياستها وقوتها وما يخاف وما يرجى منها ، وما يحتاج إليه لاتقاء ضررها والانتفاع بها ...
(الثالث) أن يتحلى أهل الحل والعقد بالرأي والحكمة المؤديين إلى اختيار من هو للإمامة أصلح ، وبتدبير شؤونها أقوم وأعرف . أي أن يكونوا من عقلاء الأمة وأصحاب الرأي والخبرة فيها ..
2 - صور الاستخلاف خمس :
وأعني بها الصور التي وقعت عبر التاريخ في اختيار الخليفة ، ثلاث منها وقعت في عهد الخلافة الراشدة ، أثناء استخلاف "أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين " .. واثنتان منها وقعت بعد ذلك أثناء استخلاف معاوية .. ثم استخلاف ابنه يزيد .. وواحدة كانت في تغلب عبد الملك بن مروان على الخلافة وانتزاعها من عبد الله بن الزبير :
الصورة الأولى :
أن يتم اختيار الخليفة بإجماع أهل الحل والعقد .. كما حصل في بيعة أبي بكر رضي الله عنه في سقيفة بني ساعدة . فقد تكلم أبو بكر أمام الأنصار ، وأنهى كلمته بترشيح أحد الرجلين " أبي عبيدة وعمر " ولم يرشح نفسه لها رضي الله عنه .. وهنا أخذ عمر بيد الصديق وقال : أما وقد قلت هذا ، فأنت يا أبا بكر (خليفة رسول الله) وقد بايعتك على هذا ، لقد رضيك رسول الله لديننا ، أفلا نرضاك لدنيانا .؟؟ فسارع الناس من مهاجرين وأنصار إلى مبايعة أبي بكر رضي الله عنه ، لم يتخلف عنها أحد منهم . فكانت بيعته متفقا عليها بإجماع أهل الحل والعقد آنذاك ..
الصورة الثانية :
أن يُعهد بالخلافة لرجل بعينه . أي أن يعهد الخليفة السابق للخليفة الذي سيخلفه ، كما صنع أبو بكر حين عهد بالخلافة لعمر من بعده . ولكنه لم يفعل ذلك حتى استشار أهل الحل والعقد ، فما كان يريبهم من عمر رضي الله عنه سوى شدته في الحق .. فكان أبو بكر يطئنهم فيقول لهم " إذا آل الأمر إليه لان جانبه للناس ، وحدب عليهم ، ورفق بهم " وهذا ما كان بعد ذلك . فقد كان عمر من أرحم الخلفاء بالضعفاء والمساكين ..
الصورة الثالثة :
أن يعهد الخليفة السابق ، لا إلى شخص بعينه كما فعل أبو بكر حين استخلف عمر .. وإنما يعهد به لعدد محدود ممن هم أهل لهذا المنصب ، على أن يتم اختيار واحد منهم ، بعد المشورة وتداول الرأي..  وهذا ما صنعه عمر رضي الله عنه بعدما طعن بالخنجر ، وقال له الطبيب : أوص يا أمير المؤمنين . فجعلها في واحد من هؤلاء النفر الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض وهم [ عثمان بن عفان ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الرحمن بن عوف ، والزبير بن العوام ، وسعد بن أبي وقاص ، وطلحة بن عبيد الله . ] . وأمر ابنه عبد الله بن عمر أن يدخل للتصويت معهم إذا اختلفوا بين رجلين ، وقال لهم : وليس لابن عمر حق فيها . قالوا ولم تحجر عليه حقه ؟ قال عمر : إن تكن خيرا فقد أصاب منه آل عمر . وإن تكن شرا فقد أصاب منه آل عمر ما يكفيهم .. ثم أمر ابنه أن يضم صوته إلى صوت عبد الرحمن بن عوف .. فوقع الاختيار على استخلاف عثمان بعد استشهاد عمر .. رضي الله عنهم جميعا ..
فلما استشهد عثمان ، آلت الخلافة إلى علي رضي الله عنه بإجماع أهل الحل والعقد ، دون منازع له فيها ..
وكذلك كانت خلافة الحسن بإجماع أهل الحل والعقد وأصحاب الشوكة والنفوذ .. فقد اختاره أصحابه خليفة بعد استشهاد أبيه . وكانوا طلبوا من علي أن يوصي له بالخلافة، قالوا : استخلف يا أمير المؤمنين . قال لا . ولكن أدعكم كما ترككم رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني بغير استخلاف - فإن يرد الله بكم خيرا يجمعكم على خيركم ، كما جمعكم على خيركم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما توفي وصلى عليه ابنه الحسن ، ودفن ، وفرغ من شأنه ، كان أول من تقدم إلى الحسن بن علي رضي الله عنه قيس بن سعد بن عبادة فقال له : ابسط يدك أبايعك على كتاب الله وسنة نبيه ، فسكت الحسن ، فبايعه ، ثم بايعه الناس بعده .
الصورة الرابعة :
أن يتنازل الخليفة عن الخلافة لرجل يختاره هو لهم ، لمصلحة شرعية اقتضت ذلك .. مثل ما فعل الحسن بن علي سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تنازل عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ، فأصلح بذلك بين المسلمين ، وأنهى حروبا لو استمرت لأكلت الأخضر واليابس ، ولما قامت للمسلمين بها قائمة . وهو رضي الله عنه مهيأ لذلك بقدر الله .
جاء في شرح صحيح البخاري ـ لابن بطال أن الْحَسَنَ البصري قَالَ :
( اسْتَقْبَلَ ، وَاللَّهِ ، الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ مُعَاوِيَةَ بِكَتَائِبَ أَمْثَالِ الْجِبَالِ ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ : إِنِّى لأرَى كَتَائِبَ لا تُوَلِّى حَتَّى تَقْتُلَ أَقْرَانَهَا ، فَقَالَ مُعَاوِية ، وَكَانَ وَاللهِ خَيْرُ الرَّجُلينِ ، أَيْ عَمْرُو ، إِنْ قُتلَ هَؤُلاءِ هَؤُلاءِ ، وَهَؤُلاءِ هَؤُلاءِ ، مَنْ لِي بِأُمُورِ النَّاسِ ، مَن لِي بِنِسائِهِمْ ، مَنْ لِي بِضَيعتِهِمْ ؟
فبعث إِليه رجلينِ من قُريْشٍ مِنْ بَنِي عبدِ شمسٍ : عبدَ الرَّحمنِ بنَ سمرةَ وَعبدَ اللَّهِ بن عَامِرِ بن كرَيزٍ ، فَقَالَ : اذْهبا إِلَى هذَا الرَّجلِ ، فَاعرِضا علَيهِ ، وَقُولا لَه ، وَاطْلُبَا إِلَيْهِ ..
فَأَتَيَاهُ ، فَدخَلا عَلَيْهِ ، وَتَكَلَّمَا ، فَقَالا لَهُ ، وَطَلَبَا إِلَيْهِ .. فَقَالَ لَهُمَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ : إِنَّا بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَدْ أَصَبْنَا مِنْ هَذَا الْمَالِ : وَإِنَّ هَذِهِ الأمَّةَ قَدْ عَاثَتْ فِي دِمَائِهَا ..
قَالا : فَإِنَّا نَعْرِضُ عَلَيْكَ كَذَا وَكَذَا ، وَنَطْلُبُ إِلَيْكَ ، وَنَسْأَلُكَ .. قَالَ : فَمَنْ لِي بِهَذَا ؟ قَالا : نَحْنُ لَكَ بِهِ .. فَمَا سَأَلَهُمَا شَيْئًا ، إِلا قَالا : نَحْنُ لَكَ بِهِ ، فَصَالَحَهُ .
قَالَ الحسنُ البصري : ولقد سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ ، يَقُولُ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ ، والحسَنُ بنُ عَلِىٍّ إِلَى جَنْبِهِ ، وَهُو يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّة ، وَعليه أُخرى ، ويقولُ : إِنَّ ابنِي هذَا سيِّدٌ ، وَلعلَّ اللَّهَ أَن يُصلحَ بِهِ بين فئتينِ عظيمتينِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ .
قال شراح الحديث : وفيه دلالة على ميل الحسن بن علي رضي الله عنه  إلى الصلح وكراهيته للحرب بين المسلمين.. وفيه دليل على حسن نظر معاوية في العواقب ورغبته في صرف الحرب أيضا .
وفيه من الفقه : أن الصلح على الانخلاع من الخلافة والعهد بها على أخذ مال جائز للمختلع والمال له طيب ، وكذلك هو جائز للمصالح الدافع المال إذا كان كل واحد منهما له سبب في الخلافة يستند إليه ، وعقد من الإمارة يعول عليه .
الصورة الخامسة :
أن تكون الخلافة بالتغلب والقهر ، حيث يظهر المتغلب على الناس ويقهرهم حتى يذعنوا له ويصير إمامًا ، فتثبت إمامته ، وتجب عليهم طاعته , ومثل ذلك ما حدث من عبد الملك بن مروان حين خرج على ابن الزبير فقتله واستولى على البلاد وأهلها حتى بايعوه طوعًا وكرهًا ودعوه إمامًا .
 

 ...... يتبع .........