أسلوب الالتفات في القرآن الكريم
27 / 11 / 2015
بقلم : أبو ياسر السوري
============
تعريف الالتفات :
الالتفات هو أحد أقسام البيان في البلاغة ، سمي بذلك أخذا من التفات الشخص عن يمينه وشماله لحث جلسائه على الإصغاء ، وكذلك الانتقال في الكلام من صيغة إلى صيغة أخرى ، يشبه التفات المتحدث إلى قرائه ، حثا لهم على الإقبال والإصغاء إلى ما يقال ..
صوره :
ويقع هذا التنقل بين أساليب الكلام على صور شتى . منها الانتقال من الغيبة إلى الخطاب . أو من التكلم إلى الخطاب . أو من الخطاب إلى الغيبة . أو من الغيبة إلى التكلم .. وقد يكون هذا الالتفات بالتحول من الماضي إلى الحاضر . أو من الحاضر إلى الماضي .. أو من المستقبل إلى الماضي .. يتضح ذلك كله بالتمثيل التالي :
مثال الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ، قوله تعالى " الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين* " .. ثم التفت عن الغيبة إلى الخطاب فقال " إياك نعبد وإياك نستعين * " ولو استمر الكلام على صيغة الغائب لقال " إياه نعبد . وإياه نستعين * "
ومثال الالتفات من التكلم إلى الخطاب ، قوله تعالى " إنا أعطيناك الكوثر* " .. ثم التفت عن التكلم إلى الخطاب فقال : " فصل لربك وانحر " .. ولو لم يلتفت إلى الخطاب لقال " فصل لنا وانحر " ..
ومثال الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ، قوله تعالى " حتى إذا كنتم في الفلك " ثم انتقل إلى الغيبة فقال " وجرين بهم " .. ولو استمر على أسلوب الخطاب لقال " وجرين بكم " ..
ومثال الالتفات من الغيبة إلى التكلم ، قوله تعالى : " والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا " ثم التفت عن الغائب إلى المتكلم فقال : " فسقناه إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ " ولم يقل " فساقته إلى بلد .. " .
ومن هذا النوع الالتفات الذي في سورة طه ، في حكاية الحوار الذي دار بين موسى وفرعون
قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى* قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء " - ثم انتقل من أسلوب الغيبة هذا إلى صيغة التكلم فقال - : فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى * "
ثمراته :
اتفق جمهور علماء اللغة العربية على أن الالتفات فن بياني فريد ، ليس له وجود في أية لغة أخرى غير اللغة العربية ، وهو من محسنات الكلام فيها .. ولكن اختلفوا في تحديد الغرض منه . فهنالك من زعم أن الالتفات إنما هو لتطرية نشاط السامع ، وتجنيب ذهنه من السآمة والملل ...
ولكن خالفهم في هذا التعليل فريق آخر ، وقال : إن صح أن يؤتى بالالتفات لغرض التنشيط إلى سماع كلام البشر ، فلا يصح أن يكون كذلك في القرآن الكريم ، لأن القرآن فيه سر خفي من أسرار الجمال والكمال ، وروح عجيب يسري في كيان سامعه ، فيملأ نفسه متعة ، وروحه إشراقا ، وهو - كما قال علي رضي الله عنه – [ .. كتاب الله فيه نبأ ما كان قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم وهو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم هو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة ولا يشبع منه العلماء ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه هو الذي لم تنته الجن إذا سمعته حتى قالوا " إنا سمعنا قرآنا عجبا " " يهدي إلى الرشد " من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم ] .
ولو نقبنا عن السر في كون القرآن الكريم مما لا يشبع منه العلماء ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه ، ولا يخفت القه ولا بهاؤه .. لوجدنا أن ذلك لا يعود لوجود الالتفات وحسب ، وإنما يرجع لكون القرآن يمتاز بالتصوير من خلال التعبير ، وأنه يختار اللفظة السلسة ، والعبارة الموحية ، ويتكئ على العاطفة ، ويعنى بالتصوير والتشخيص وإمتاع الخيال .. عبر المجاز، والاستعارة ، والانتقال من زمن إلى آخر ، باستخدام الماضي عوضا عن الحاضر ، والحاضر في مكان الماضي ، إما للتأكيد على مضمون الخبر ، وإما لإحياء المشاهد واستحضارها ، وكأنها تحدث الساعة .. أضف إلى هذا ما امتاز به القرآن من جمال السبك وحسن التأليف ، ورشاقة الجرس ، وخفة الإيقاع ، والقدرة على الإمتاع .. مما جعله معجزا في مبناه ، معجزا في معناه ، معجزا في تأثيره على من يفهمه ومن لا يفهمه ..
هذا هو سر الإعجاز ، الذي بهر الفصحاء ، وأعيا البلغاء ، وتحدى الله به الجن والإنس أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .. وهذا هو الإعجاز الذي انصرف الناس في زماننا عن الخوض فيه لقلة بضاعتهم في أساليب البيان ، وتعلقوا بالإعجاز العلمي والتاريخي والعددي والطبي والنفسي ... وهي ألوان من الإعجاز التي لم تكن معروفة في صدر الإسلام ، ثم ظهرت .. وقد تظهر ألوان أخرى من الإعجاز ، ليظل القرآن شاهدا على صدق من أنزل عليه ، وأنه لم يكن يتكلم بشيء من عنده" وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحي يوحى*".
من أسرار الالتفات :
لن نذهب بعيدا للوقوف على هذه الأسرار ، وإنما نكتفي بالعودة إلى الأمثلة التي أوردناها آنفا عن الالتفات ، لنتلمس من خلالها ما أفاده هذا الفن البياني من إثراء للمعنى ، وأثر في النفوس ..
أولا : لنأخذ سر الالتفات في سورة الفاتحة ، وهو كما علمنا انتقال من أسلوب ( الغائب إلى المتكلم ) والابتداء بأسلوب الغائب يتضمن إشارة إلى بعد المنزلتين ما بين الرب والعبد .. ولكن لما حمد العبد ربه وأقر له بأنه رب العالمين ، وأثنى عليه بأنه الرحمن الرحيم ، وأنه مالك يوم الدين .. انتقل العبد بذلك إلى منزلة القرب ، فأقبل الله تعالى عليه مصغيا إلى حمده وثنائه .. فناسب مع هذا القرب أن ينتقل إلى أسلوب الخطاب فيقول : " إياك نعبد * وإياك نستعين * " لأنه الآن يدعو قريبا مجيبا .. فانظر كيف تأتى هذا المعنى اللطيف بأسلوب الالتفات العجيب ..
ثانيا : أما الالتفات في سورة الكوثر بالانتقال ( من ضمير المتكلم إلى الظاهر المخاطب ) فقد اقتضته أمور عديدة منها: توخي الالتفات لكونه من أجمل أساليب البيان . ومنها : صرف الكلام عن المضمر إلى المظهر ليشير بذلك إلى عظمة المتكلم . فقد جرت عادة الملوك أن يقول قائلهم لوزيره " يأمرك الملك بكذا .. وينهاك الملك عن كذا .. وإياك أن تعصي مليكك .. يكلمه بذلك وهو أمامه . لتعظيم نفسه ، وبيان خطر الوصف بالمُلك ، الذي يجب تعظيمه ، والانصياع لصاحبه ..
ومن هذا القبيل قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم " فصل لربك .. " ومن بلاغة هذا الالتفات أيضا أنه أدى معنى لطيفا في تنزيه المعبود ، فقوله تعالى " إنا أعطيناك .. " لا تدل بلفظها على أن الممتن بالعطاء هنا هو الله وحده ، فاللفظ جاء بضمير الجمع الذي قد يفهم منه أن الممتن بالكوثر أكثر من واحد .. لذلك عدل عن قوله ( فصل لنا ) .. إلى قوله ( فصل لربك ) .. لنعلم أن معطي الكوثر واحد وهو الرب سبحانه . وأن النون في " إنا " و" أعطينا " ليست للجماعة ، وإنما هي هنا " نون العظمة " الخاصة بالله عز وجل ..
ثالثا : وأما قوله تعالى في سورة يونس " حتى إذا كنتم في الفلك ، وجرين بهم " فقد أدى الالتفات هنا معنى لطيفا جدا .. إذ رأينا في سورة الفاتحة أن الانتقال في الكلام من لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب كان للدلالة على القرب ، ما بين العبد والرب ..
أما في المثال هنا فقد كان العكس ، حيث كان الانتقال هنا من " الخطاب إلى الغيبة " .. وعملا بقياس الضد في هذه الآية ، يمكن أن يقال : إن هذا الانتقال من الخطاب إلى الغيبة ، يدل على مقت الله للعصاة وإبعاده إياهم .
ومع ذلك فقد تلطف معهم ، ولم يجابههم بما يكرهون ، وإنما تحول بالحديث عنهم ،إلى الحديث عن كل عاص ،لا يذكر الله إلا إذا ركب البحر واختطفته العاصفة وأحاط به الموج من كل مكان قال تعالى " هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ .. "
فانظر كيف قال " وجرين بهم " ولم يقل " وجرين بكم " . فحبذا لو ترفق الدعاة اليوم بالعصاة ، وتعلموا أن لا ينفروهم من الإسلام بفظاظتهم وغلظتهم في الدعوة إلى الله ..
رابعا : أما الالتفات الذي جاء في سورة طه حيث انتقل السياق فيها من صيغة الغائب في قوله تعالى " الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء .. " إلى أسلوب المتكلم في تتمة الآية " فأخرجنا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى * " ..
أما السر في هذا الالتفات فهو لدفع شبهة قد تخل بأصل العقيدة ، إذ لو قال " فأخرج به أزواجا من نبات شتى " لتسلل إلى الوهم أن الفاعل في إخراج النبات هو الماء وليس الله عز وجل ، وهذا مخالف لما يدين به المسلم ، من أن الله هو خالق الأسباب ومسبباتها . فقد وجد سبب الإحراق في نار إبراهيم ولكن النار لم تحرق .. ووجد الماء الذي اجتازه موسى ومن معه ولم يغرقهم ، وإنما أغرق عدوهم فرعون وجنوده في نفس اللحظة ..
فدفعا لهذه الشبهة جاء الالتفات هنا بقوله تعالى ( فأخرجنا ) للقطع في إسناد الإنبات إلى الله وليس إلى الماء .. فالمؤثر الحقيقي أولا وآخراً هو الله سبحانه وتعالى . ولو لا هذا الالتفات لما أدى النص هذا المعنى المراد من العباد ..
ولو شئنا لأوردنا الكثير من الأمثلة في هذا الباب ،
وختاما :
اللهم اجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا ، وجلاء همومنا ، وشفاء صدورنا . اللهم ذكرنا منه ما نسينا . وعلمنا منه ما جهلنا . وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار .. وصلى الله على محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ..
27 / 11 / 2015
بقلم : أبو ياسر السوري
============
تعريف الالتفات :
الالتفات هو أحد أقسام البيان في البلاغة ، سمي بذلك أخذا من التفات الشخص عن يمينه وشماله لحث جلسائه على الإصغاء ، وكذلك الانتقال في الكلام من صيغة إلى صيغة أخرى ، يشبه التفات المتحدث إلى قرائه ، حثا لهم على الإقبال والإصغاء إلى ما يقال ..
صوره :
ويقع هذا التنقل بين أساليب الكلام على صور شتى . منها الانتقال من الغيبة إلى الخطاب . أو من التكلم إلى الخطاب . أو من الخطاب إلى الغيبة . أو من الغيبة إلى التكلم .. وقد يكون هذا الالتفات بالتحول من الماضي إلى الحاضر . أو من الحاضر إلى الماضي .. أو من المستقبل إلى الماضي .. يتضح ذلك كله بالتمثيل التالي :
مثال الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ، قوله تعالى " الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين* " .. ثم التفت عن الغيبة إلى الخطاب فقال " إياك نعبد وإياك نستعين * " ولو استمر الكلام على صيغة الغائب لقال " إياه نعبد . وإياه نستعين * "
ومثال الالتفات من التكلم إلى الخطاب ، قوله تعالى " إنا أعطيناك الكوثر* " .. ثم التفت عن التكلم إلى الخطاب فقال : " فصل لربك وانحر " .. ولو لم يلتفت إلى الخطاب لقال " فصل لنا وانحر " ..
ومثال الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ، قوله تعالى " حتى إذا كنتم في الفلك " ثم انتقل إلى الغيبة فقال " وجرين بهم " .. ولو استمر على أسلوب الخطاب لقال " وجرين بكم " ..
ومثال الالتفات من الغيبة إلى التكلم ، قوله تعالى : " والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا " ثم التفت عن الغائب إلى المتكلم فقال : " فسقناه إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ " ولم يقل " فساقته إلى بلد .. " .
ومن هذا النوع الالتفات الذي في سورة طه ، في حكاية الحوار الذي دار بين موسى وفرعون
قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى* قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء " - ثم انتقل من أسلوب الغيبة هذا إلى صيغة التكلم فقال - : فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى * "
ثمراته :
اتفق جمهور علماء اللغة العربية على أن الالتفات فن بياني فريد ، ليس له وجود في أية لغة أخرى غير اللغة العربية ، وهو من محسنات الكلام فيها .. ولكن اختلفوا في تحديد الغرض منه . فهنالك من زعم أن الالتفات إنما هو لتطرية نشاط السامع ، وتجنيب ذهنه من السآمة والملل ...
ولكن خالفهم في هذا التعليل فريق آخر ، وقال : إن صح أن يؤتى بالالتفات لغرض التنشيط إلى سماع كلام البشر ، فلا يصح أن يكون كذلك في القرآن الكريم ، لأن القرآن فيه سر خفي من أسرار الجمال والكمال ، وروح عجيب يسري في كيان سامعه ، فيملأ نفسه متعة ، وروحه إشراقا ، وهو - كما قال علي رضي الله عنه – [ .. كتاب الله فيه نبأ ما كان قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم وهو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم هو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة ولا يشبع منه العلماء ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه هو الذي لم تنته الجن إذا سمعته حتى قالوا " إنا سمعنا قرآنا عجبا " " يهدي إلى الرشد " من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم ] .
ولو نقبنا عن السر في كون القرآن الكريم مما لا يشبع منه العلماء ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه ، ولا يخفت القه ولا بهاؤه .. لوجدنا أن ذلك لا يعود لوجود الالتفات وحسب ، وإنما يرجع لكون القرآن يمتاز بالتصوير من خلال التعبير ، وأنه يختار اللفظة السلسة ، والعبارة الموحية ، ويتكئ على العاطفة ، ويعنى بالتصوير والتشخيص وإمتاع الخيال .. عبر المجاز، والاستعارة ، والانتقال من زمن إلى آخر ، باستخدام الماضي عوضا عن الحاضر ، والحاضر في مكان الماضي ، إما للتأكيد على مضمون الخبر ، وإما لإحياء المشاهد واستحضارها ، وكأنها تحدث الساعة .. أضف إلى هذا ما امتاز به القرآن من جمال السبك وحسن التأليف ، ورشاقة الجرس ، وخفة الإيقاع ، والقدرة على الإمتاع .. مما جعله معجزا في مبناه ، معجزا في معناه ، معجزا في تأثيره على من يفهمه ومن لا يفهمه ..
هذا هو سر الإعجاز ، الذي بهر الفصحاء ، وأعيا البلغاء ، وتحدى الله به الجن والإنس أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .. وهذا هو الإعجاز الذي انصرف الناس في زماننا عن الخوض فيه لقلة بضاعتهم في أساليب البيان ، وتعلقوا بالإعجاز العلمي والتاريخي والعددي والطبي والنفسي ... وهي ألوان من الإعجاز التي لم تكن معروفة في صدر الإسلام ، ثم ظهرت .. وقد تظهر ألوان أخرى من الإعجاز ، ليظل القرآن شاهدا على صدق من أنزل عليه ، وأنه لم يكن يتكلم بشيء من عنده" وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحي يوحى*".
من أسرار الالتفات :
لن نذهب بعيدا للوقوف على هذه الأسرار ، وإنما نكتفي بالعودة إلى الأمثلة التي أوردناها آنفا عن الالتفات ، لنتلمس من خلالها ما أفاده هذا الفن البياني من إثراء للمعنى ، وأثر في النفوس ..
أولا : لنأخذ سر الالتفات في سورة الفاتحة ، وهو كما علمنا انتقال من أسلوب ( الغائب إلى المتكلم ) والابتداء بأسلوب الغائب يتضمن إشارة إلى بعد المنزلتين ما بين الرب والعبد .. ولكن لما حمد العبد ربه وأقر له بأنه رب العالمين ، وأثنى عليه بأنه الرحمن الرحيم ، وأنه مالك يوم الدين .. انتقل العبد بذلك إلى منزلة القرب ، فأقبل الله تعالى عليه مصغيا إلى حمده وثنائه .. فناسب مع هذا القرب أن ينتقل إلى أسلوب الخطاب فيقول : " إياك نعبد * وإياك نستعين * " لأنه الآن يدعو قريبا مجيبا .. فانظر كيف تأتى هذا المعنى اللطيف بأسلوب الالتفات العجيب ..
ثانيا : أما الالتفات في سورة الكوثر بالانتقال ( من ضمير المتكلم إلى الظاهر المخاطب ) فقد اقتضته أمور عديدة منها: توخي الالتفات لكونه من أجمل أساليب البيان . ومنها : صرف الكلام عن المضمر إلى المظهر ليشير بذلك إلى عظمة المتكلم . فقد جرت عادة الملوك أن يقول قائلهم لوزيره " يأمرك الملك بكذا .. وينهاك الملك عن كذا .. وإياك أن تعصي مليكك .. يكلمه بذلك وهو أمامه . لتعظيم نفسه ، وبيان خطر الوصف بالمُلك ، الذي يجب تعظيمه ، والانصياع لصاحبه ..
ومن هذا القبيل قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم " فصل لربك .. " ومن بلاغة هذا الالتفات أيضا أنه أدى معنى لطيفا في تنزيه المعبود ، فقوله تعالى " إنا أعطيناك .. " لا تدل بلفظها على أن الممتن بالعطاء هنا هو الله وحده ، فاللفظ جاء بضمير الجمع الذي قد يفهم منه أن الممتن بالكوثر أكثر من واحد .. لذلك عدل عن قوله ( فصل لنا ) .. إلى قوله ( فصل لربك ) .. لنعلم أن معطي الكوثر واحد وهو الرب سبحانه . وأن النون في " إنا " و" أعطينا " ليست للجماعة ، وإنما هي هنا " نون العظمة " الخاصة بالله عز وجل ..
ثالثا : وأما قوله تعالى في سورة يونس " حتى إذا كنتم في الفلك ، وجرين بهم " فقد أدى الالتفات هنا معنى لطيفا جدا .. إذ رأينا في سورة الفاتحة أن الانتقال في الكلام من لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب كان للدلالة على القرب ، ما بين العبد والرب ..
أما في المثال هنا فقد كان العكس ، حيث كان الانتقال هنا من " الخطاب إلى الغيبة " .. وعملا بقياس الضد في هذه الآية ، يمكن أن يقال : إن هذا الانتقال من الخطاب إلى الغيبة ، يدل على مقت الله للعصاة وإبعاده إياهم .
ومع ذلك فقد تلطف معهم ، ولم يجابههم بما يكرهون ، وإنما تحول بالحديث عنهم ،إلى الحديث عن كل عاص ،لا يذكر الله إلا إذا ركب البحر واختطفته العاصفة وأحاط به الموج من كل مكان قال تعالى " هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ .. "
فانظر كيف قال " وجرين بهم " ولم يقل " وجرين بكم " . فحبذا لو ترفق الدعاة اليوم بالعصاة ، وتعلموا أن لا ينفروهم من الإسلام بفظاظتهم وغلظتهم في الدعوة إلى الله ..
رابعا : أما الالتفات الذي جاء في سورة طه حيث انتقل السياق فيها من صيغة الغائب في قوله تعالى " الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء .. " إلى أسلوب المتكلم في تتمة الآية " فأخرجنا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى * " ..
أما السر في هذا الالتفات فهو لدفع شبهة قد تخل بأصل العقيدة ، إذ لو قال " فأخرج به أزواجا من نبات شتى " لتسلل إلى الوهم أن الفاعل في إخراج النبات هو الماء وليس الله عز وجل ، وهذا مخالف لما يدين به المسلم ، من أن الله هو خالق الأسباب ومسبباتها . فقد وجد سبب الإحراق في نار إبراهيم ولكن النار لم تحرق .. ووجد الماء الذي اجتازه موسى ومن معه ولم يغرقهم ، وإنما أغرق عدوهم فرعون وجنوده في نفس اللحظة ..
فدفعا لهذه الشبهة جاء الالتفات هنا بقوله تعالى ( فأخرجنا ) للقطع في إسناد الإنبات إلى الله وليس إلى الماء .. فالمؤثر الحقيقي أولا وآخراً هو الله سبحانه وتعالى . ولو لا هذا الالتفات لما أدى النص هذا المعنى المراد من العباد ..
ولو شئنا لأوردنا الكثير من الأمثلة في هذا الباب ،
وختاما :
اللهم اجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا ، وجلاء همومنا ، وشفاء صدورنا . اللهم ذكرنا منه ما نسينا . وعلمنا منه ما جهلنا . وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار .. وصلى الله على محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ..