مشروع داعش: احتلال سوريا (القصة الكاملة)
--------
بقلم مجاهد مأمون ديرانية
---
كيف استطاعت "داعش" احتلال مساحة واسعة من سوريا في وقت قصير؟ هل هي من القوى الكبرى على الأرض؟ الجواب معروف: ليست كذلك، ولا يكاد مقاتلوها يبلغون نصفَ معشار عدد مقاتلي سائر الجماعات والكتائب التي تنتشر في أنحاء البلاد. فكيف إذن؟
الجواب هو أن داعش حاربت بذكاء ودهاء، فأما الدهاء فإنه يذكّرنا بأساليب جيوش الاستعمار التي غزت بلادَنا في القرن الماضي، وكان سلاحها الأمضى هو الكذب والغدر والمكر والخديعة، وكذلك صنعت "داعش" في سوريا. وأما الذكاء فإنه يظهر في الإستراتيجية العسكرية التي اتبعتها في القتال، فبما أن القوة التي تملكها ليست كبيرة مقارَنةً بما يملكه خصومُها من عدد وعدة فقد أنشأت إستراتيجيتها الحربية على تجنب إهدار مواردها البشرية والمادية، وذلك بالتوسع على حساب الأراضي المحررة وتجنب الصدام مع النظام.
وقد توسّلَت "داعش" إلى تحقيق تلك الإستراتيجية الخبيثة بعدد من الأساليب (التكتيكات) التي كان أهمها: التسلل عبر الثغرات الضعيفة وتجنب الاشتباك مع الأطراف القوية، واستغلال نفسيات المجاهدين المتسامحة ونفورهم من الاشتباك مع جماعة تدّعي الجهاد وتقاتل تحت راية التوحيد، واستثمار تقصير الكتائب الأخرى وعجزها عن محاربة لصوص الثورة، وأخيرًا وقبل ذلك كله وبعده: استعمال أساليب يعجز خصومُها من المجاهدين عن الردّ بمثلها، أساليب تنطوي على كثير من الكذب والغدر والخيانة والخداع.
-1-
كانت الإستراتيجية العامة التي اتبعتها "داعش" لاحتلال سوريا هي التوسع على حساب المناطق المحرَّرة وتجنب الصدام مع النظام؛ لأن تلك هي أسهل وأسرع الطرق للحصول على الأرض التي تحتاج إليها لتقيم عليها مشروع الدولة الموهومة.
لقد صار عُدوان "داعش" على سوريا و"احتلال المناطق المحررة" أمرًا مشهورًا متواترًا يعرفه القاصي والداني، ولكن كثيرين من أنصارها المسحورين بباطلها ما يزالون يجادلون في الشق الثاني من المتلازمة المشؤومة، "تجنب الحرب مع النظام"، ويطلبون الدليل. لو شئتُ أن أبسط الدليل بالتفاصيل والأسماء والتواريخ لتضاعف حجم المقالة عشرة أضعاف، لذلك أكتفي بوصف إجمالي من شأنه أن يفضح أكبر خدعة خدعت بها داعش عامةَ السوريين، حينما أوهمتهم بأنها تقاتل نظام الاحتلال النصيري الأسدي، وتساعد على تحرير الأرض السورية من الاحتلال.
عندما استكملت "داعش" بناء قوتها العسكرية كان الجزء الأهم من سوريا تحت سيطرة النظام (وما يزال): العاصمة والساحل، وأجزاء مهمة من محافظتَيْ حمص وحماة، ومطارات وقواعد عسكرية كثيرة منثورة في جميع المحافظات. كان ينبغي على "داعش" أن تستثمر قوتها العسكرية في تحرير تلك المناطق، ولكن العكس تمامًا هو الذي حصل؛ تركت "داعش" المناطق المحتلة، وبدأت باحتلال المناطق المحررة.
كانت في الرقة ثلاث "بؤر" للنظام (مطار الطبقة والفرقة 17 واللواء 93) تركتها "داعش" واحتلت بقية مناطق المحافظة بمدنها وقراها جميعًا. وفي "دير الزور" تركت المطار الذي يسيطر عليه النظام، وتجاهلت أحياءَ المدينة التي يحتلها وانشغلت باحتلال الجزء المحرَّر منها، كما انتشرت عبر مدن وريف المحافظة المحررة أصلاً. وفي إدلب تركت "جسر الشغور" المحتلّة التي تربط المناطق المحررة بالساحل وتُعتَبر أهم عقدة مواصلات في المحافظة (أو ثاني أهم عقدة بعد سراقب) واحتلت مساحات واسعة في الريف الشمالي، ثم بدأت بالتمدد عبر الريف الجنوبي مؤخرًا. أما في حمص وحماة فقد تركت "داعش" مدينةَ حمص المحاصرة والريف الغربي لحمص وحماة، وهما منطقتان منكوبتان تعيشان تحت تهديد ميليشيات القرى النصيرية والشيعية المجاورة، وبدأت بالتمدد عبر الريف الشرقي المحرَّر، وكانت على وشك تنفيذ عملية غزو واسعة على مدينة السلمية وقراها قبل يوم واحد من اندلاع الاشتباكات الأخيرة مع "جيش المجاهدين".
وفي حلب تركت "داعش" الريفَ الجنوبي الذي يسيطر النظامُ على الجزء الأكبر منه، والذي يتيح له التحكم في طريق دمشق حلب الدولي، وهاجمت واحتلت الريف الشرقي، ثم الريف الشمالي، ثم بدأت أخيرًا بغزو الريف الغربي، وكلها مناطق سبق للثوار تحريرُها منذ أواخر سنة الثورة الثانية. والغريب أنها حرصت على احتلال الريف الشمالي بأكمله، بما فيه المعابر الحدودية مع تركيا، ومع ذلك فقد تركت قريتَي الأعداء، "نُبّل" و"الزهراء"، رغم أنهما تقعان بين اثنتين من قواعدها المهمة: مطار "منّغ" في الشمال، و"حريتان" و"عندان" في الجنوب. تركتهما "داعش" وهما على بعد كيلومترات قليلة من قواعدها وساقت الأرتال من تلك القواعد لغزو "الأتارب" البعيدة في الغرب.
لماذا صنعت ذلك؟ ولماذا تركت كل ما سبق ذكره من مناطق محتلة، واحتلت الأراضي المحررة؟ لو عثرنا على الجواب فسوف نحل قطعة مهمة من الأحجية.
-2-
نجحت داعش في تطبيق إستراتيجيتها القائمة على احتلال الأراضي المحررة باستعمال عدد من الأساليب (التكتيكات)، كان أهمّها اختراق "الخواصر الرخوة" في الجسم العسكري الثوري وعدم إهدار مواردها البشرية المحدودة في معارك جانبية مع الأقوياء.
في تشرين الأول الماضي فقدت "داعش" طريق الشمال الواصل من الرقة إلى ريف حلب الشرقي عبر "عين عيسى" بعد معارك طاحنة خاضتها مع عشيرة "الفدعان" (وهي فرع من قبائل عنزة) بين تل السمن وعين عيسى. وبما أنها لا تستغني عن ربط قاعدتها في الرقة بمناطق نفوذها في الريف الحلبي، وحيث إن السيطرة على الطريق الشمالي كانت صعبة بسبب وقوعه في مناطق نفوذ "الفدعان"، فقد قررت "داعش" السيطرة على الطريق الجنوبي الذي يصل الرقة بالريف الحلبي الشرقي عبر "مسكنة"، وكان ذلك هو السبب في غزو "مسكنة" والاشتباك مع أحرار الشام.
لقد تركت "داعش" الطريق الشمالي واختارت المرور عبر "مسكنة" التي تسيطر عليها حركة أحرار الشام تطبيقاً لقاعدة "التسلل عبر الخواصر الرخوة"، والخواصر الرخوة عندها هي الكتائب والجماعات التي لا تطيق المواجهة المباشرة لواحد من سببين: إما لأن عدد مقاتليها قليل وقدرتها القتالية ضعيفة، أو لأن تكوينها الفكري يمنع مقاتليها من الاشتباك مع مَن يعتبرونهم إخوةً في المنهج والجهاد.
السبب الأول يفسر استهداف "داعش" للكتائب الصغيرة المستقلة، فهي لا تبلغ من الحجم ما يتيح لها الدفاع عن النفس ولا ترتبط بكيانات كبيرة يمكن أن تدافع عنها، ومن ثَمّ فلا يوجد أي رادع يمكن أن يُضعف من شهية "داعش" لابتلاعها. لقد استطاعت "داعش" فعلاً أن تبتلع عشرات من تلك الكتائب في أقل من ثلاثة أشهر، كما أنها حطمت عشرات أخرى من الكتائب الصغيرة التي لم يعد لها وجود بعدما ترك مقاتلوها السلاحَ وعادوا إلى بيوتهم، أو انسحبوا إلى تركيا فرارًا من البطش الداعشي الذي لاحق كثيرًا من القادة والمقاتلين.
أما السبب الثاني فإنه يفسر استهداف "داعش" المستمر لحركة أحرار الشام، فهي المتضرر الأكبر من العدوان الداعشي ولكنها -في الوقت ذاته- أقل ضحايا داعش دفاعًا عن النفس وردًّا للعدوان. لقد راهنت "داعش" على أن قيادة الأحرار لن تستطيع قتالها؛ لأن كثيرين من مقاتلي الأحرار ينتمون فكريًّا إلى المدرسة السلفية الجهادية، وهي المدرسة ذاتها التي تعود إليها جذور المنهج الداعشي، ويبدو أنها قد نجحت في الرهان. إن قيادة الأحرار تواجه خيارًا صعبًا في هذه الأيام، فلو أنها قررت الدفاع عن النفس والمشاركة العلنية في الحرب ضد "داعش" فسوف تخسر جزءًا من جسمها العسكري الذي يُتوقَّع أن ينشقّ وينحاز إلى الدولة أو يقف على الحياد، أما لو صمّمت على اتخاذ موقف مهادن وثابرت على التمسك بالحياد الظاهر، وعدم رد العدوان فالأرجح أن تخسر الكثير، وأن تكون أكبر ضحايا البغي الداعشي.
-3-
ثاني أهم تكتيكات "داعش" التي توسلت بها إلى تطبيق إستراتيجيتها المذكورة هي استغلال حالة الفوضى التي نشأت في بعض المناطق المحررة، والظهور بمظهر المُنقذ الذي يقدم أفضلَ البدائل عن فصائل المجاهدين التي عجزت عن توفير الأمن وفشلت في ردع عصابات اللصوص وقطّاع الطرق.
عندما شُغلت الكتائب المجاهدة المخلصة بقتال النظام اضطرت إلى التغاضي عن مجموعات اللصوص التي انتشرت في كثير من المناطق المحررة، وأحالت حياة الناس إلى كابوس. لقد كثرت الأصوات المنادية بالتفرغ لقتال تلك العصابات، وتخليص الناس من شرّها وأذاها، ولو تسبب ذلك في وقف القتال مع النظام لبعض الوقت، ولكن النداءات الكثيرة ذهبت أدراج الرياح، حتى جاءت "داعش" فصنعت ما كان ينبغي على الجماعات المُجاهِدة أن تصنعه، فلاحقت اللصوص وقضت عليهم وأراحت منهم الناس، فكسبت رضاهم وحظيت بتأييدهم ممّا ساعدها على تكريس وجودها في بعض المناطق، فلما أدرك الناس أنهم قايضوا الأمن بالحرية والكرامة وأرادوا استرجاع ما فقدوه منهما كان الأوان قد فات، فقد ضربت داعش جذورها عميقة في الأرض، وصار اقتلاعها من الأمور العسيرة.
لعل هذا الدرس من أبلغ ما ينبغي على المجاهدين أن يفهموه، فإن الناس لا يستطيعون الحياة إذا فقدوا الأمان وإذا تسلطت عليهم عصابات اللصوص، ولو أنهم عجزوا عن الصمود فإن حاضنة الثورة سوف تنهار وسيخسر المجاهدون العمق الشعبي اللازم لوجودهم. من أجل ذلك يتوجب على الجماعات المجاهدة، وعلى "الجبهة الإسلامية" بشكل خاص، أن تكرّس قوتها لمحاربة اللصوص والقضاء على كتائبهم وعصاباتهم، ولتعلم أن قتال أولئك الفاسدين المفسدين مقدَّمٌ على قتال النظام، وأن الانتصار عليهم هو الطريق إلى الانتصار عليه.
-4-
استعانت "داعش" - في حملتها لتحرير المناطق المحرّرة- بعامل مهم جدًّا، وهو "الفكر الداعشي" الذي يحمله مقاتلوها، فالقتال عندهم مؤسَّس على تصنيف الخصم من حيث الديانة والاعتقاد لا من حيث علاقته بالثورة أو النظام، والكفّار هدف مشروع للقتال؛ لأنهم كفار وليس بسبب أفعالهم، ولذلك نجد أن حرصهم على قتل النصيريين والرافضة والكفار أكبر من حرصهم على تحرير سوريا وتخليص السوريين من الأسْر والعذاب.
وحسب تصنيفهم فإن قتال المرتدين مقدَّم على قتال الكفار، وهذا يفسر ما يشاهَد من شدتهم على مخالفيهم من الفصائل الجهادية الأخرى، فإنها شدة لا نكاد نلاحظها على النظام نفسه؛ لأنهم لُقِّنوا أن تلك الجماعات مرتدة وأنها صحوات صُنِعت على عين الغرب لقتالهم والقضاء على مشروع "دولة التوحيد" التي يقاتلون من أجلها كما يظنون.
إن الخطر العظيم الذي ينشأ عن تلك العقيدة هو سهولة تحويل جيش "داعش" إلى جيش من القَتَلة بمجرد إقناعهم بأن الخصم كافر أو مرتد، وما أسهلَ ذلك على عقول سلّم أصحابُها قيادَها لأمرائهم، وعزلوها عن التلقي من غيرهم، فإن قيل لهم: إن "أحرار الشام" و"صقور الشام" و"جيش الإسلام" صحوات. فإنهم يتحولون في طرفة عين إلى أعداء يتقربون إلى الله بقتالهم وقتلهم، وإذا أراد قادتهم احتلال قرية من القرى التي تسيطر عليها بعض الكتائب الأخرى فما عليهم إلا أن يخبروهم بأنهم ذاهبون إلى قرى النصيرية والرافضة، وقد تواترت الروايات بحصول ذلك في كثير من الغزوات التي شنّتها "داعش" على المدن والقرى المحررة.
-5-
يمكننا أن نعزو جزءًا كبيرًا من نجاح "داعش" العسكري وتمددها السريع إلى الأساليب السابقة، غير أن العامل الأهم وسبب نجاحها الأكبر هو "المنظومة الأخلاقية" التي يحملها مشروعها، فقد نجحت في احتلال مناطق واسعة في سوريا؛ لأنها استعملت أساليب يعجز عامة المجاهدين عن استعمالها، أساليب تقوم على الكذب والمكر والخديعة والغدر والخيانة.
كان في خطتي أن تشمل هذه المقالة أساليبَ "داعش" كلها، ثم وجدت أن هذه النقطة الأخيرة طالت بحيث صارت تستحق أن تُفرَد في مقالة مستقلة، فأرجو احتمال التعديل الذي طرأ على فكرة المقالة الأصلية التي كان ينبغي أن تصدر في جزأين، هذا هو الثاني منهما، وسوف أختم بالجزء الثالث الذي سأخصّص أكثره -إن شاء الله- لبيان دور المنظومة الأخلاقية الداعشية في تحقيق مشروع احتلال سوريا.
--------
بقلم مجاهد مأمون ديرانية
---
كيف استطاعت "داعش" احتلال مساحة واسعة من سوريا في وقت قصير؟ هل هي من القوى الكبرى على الأرض؟ الجواب معروف: ليست كذلك، ولا يكاد مقاتلوها يبلغون نصفَ معشار عدد مقاتلي سائر الجماعات والكتائب التي تنتشر في أنحاء البلاد. فكيف إذن؟
الجواب هو أن داعش حاربت بذكاء ودهاء، فأما الدهاء فإنه يذكّرنا بأساليب جيوش الاستعمار التي غزت بلادَنا في القرن الماضي، وكان سلاحها الأمضى هو الكذب والغدر والمكر والخديعة، وكذلك صنعت "داعش" في سوريا. وأما الذكاء فإنه يظهر في الإستراتيجية العسكرية التي اتبعتها في القتال، فبما أن القوة التي تملكها ليست كبيرة مقارَنةً بما يملكه خصومُها من عدد وعدة فقد أنشأت إستراتيجيتها الحربية على تجنب إهدار مواردها البشرية والمادية، وذلك بالتوسع على حساب الأراضي المحررة وتجنب الصدام مع النظام.
وقد توسّلَت "داعش" إلى تحقيق تلك الإستراتيجية الخبيثة بعدد من الأساليب (التكتيكات) التي كان أهمها: التسلل عبر الثغرات الضعيفة وتجنب الاشتباك مع الأطراف القوية، واستغلال نفسيات المجاهدين المتسامحة ونفورهم من الاشتباك مع جماعة تدّعي الجهاد وتقاتل تحت راية التوحيد، واستثمار تقصير الكتائب الأخرى وعجزها عن محاربة لصوص الثورة، وأخيرًا وقبل ذلك كله وبعده: استعمال أساليب يعجز خصومُها من المجاهدين عن الردّ بمثلها، أساليب تنطوي على كثير من الكذب والغدر والخيانة والخداع.
-1-
كانت الإستراتيجية العامة التي اتبعتها "داعش" لاحتلال سوريا هي التوسع على حساب المناطق المحرَّرة وتجنب الصدام مع النظام؛ لأن تلك هي أسهل وأسرع الطرق للحصول على الأرض التي تحتاج إليها لتقيم عليها مشروع الدولة الموهومة.
لقد صار عُدوان "داعش" على سوريا و"احتلال المناطق المحررة" أمرًا مشهورًا متواترًا يعرفه القاصي والداني، ولكن كثيرين من أنصارها المسحورين بباطلها ما يزالون يجادلون في الشق الثاني من المتلازمة المشؤومة، "تجنب الحرب مع النظام"، ويطلبون الدليل. لو شئتُ أن أبسط الدليل بالتفاصيل والأسماء والتواريخ لتضاعف حجم المقالة عشرة أضعاف، لذلك أكتفي بوصف إجمالي من شأنه أن يفضح أكبر خدعة خدعت بها داعش عامةَ السوريين، حينما أوهمتهم بأنها تقاتل نظام الاحتلال النصيري الأسدي، وتساعد على تحرير الأرض السورية من الاحتلال.
عندما استكملت "داعش" بناء قوتها العسكرية كان الجزء الأهم من سوريا تحت سيطرة النظام (وما يزال): العاصمة والساحل، وأجزاء مهمة من محافظتَيْ حمص وحماة، ومطارات وقواعد عسكرية كثيرة منثورة في جميع المحافظات. كان ينبغي على "داعش" أن تستثمر قوتها العسكرية في تحرير تلك المناطق، ولكن العكس تمامًا هو الذي حصل؛ تركت "داعش" المناطق المحتلة، وبدأت باحتلال المناطق المحررة.
كانت في الرقة ثلاث "بؤر" للنظام (مطار الطبقة والفرقة 17 واللواء 93) تركتها "داعش" واحتلت بقية مناطق المحافظة بمدنها وقراها جميعًا. وفي "دير الزور" تركت المطار الذي يسيطر عليه النظام، وتجاهلت أحياءَ المدينة التي يحتلها وانشغلت باحتلال الجزء المحرَّر منها، كما انتشرت عبر مدن وريف المحافظة المحررة أصلاً. وفي إدلب تركت "جسر الشغور" المحتلّة التي تربط المناطق المحررة بالساحل وتُعتَبر أهم عقدة مواصلات في المحافظة (أو ثاني أهم عقدة بعد سراقب) واحتلت مساحات واسعة في الريف الشمالي، ثم بدأت بالتمدد عبر الريف الجنوبي مؤخرًا. أما في حمص وحماة فقد تركت "داعش" مدينةَ حمص المحاصرة والريف الغربي لحمص وحماة، وهما منطقتان منكوبتان تعيشان تحت تهديد ميليشيات القرى النصيرية والشيعية المجاورة، وبدأت بالتمدد عبر الريف الشرقي المحرَّر، وكانت على وشك تنفيذ عملية غزو واسعة على مدينة السلمية وقراها قبل يوم واحد من اندلاع الاشتباكات الأخيرة مع "جيش المجاهدين".
وفي حلب تركت "داعش" الريفَ الجنوبي الذي يسيطر النظامُ على الجزء الأكبر منه، والذي يتيح له التحكم في طريق دمشق حلب الدولي، وهاجمت واحتلت الريف الشرقي، ثم الريف الشمالي، ثم بدأت أخيرًا بغزو الريف الغربي، وكلها مناطق سبق للثوار تحريرُها منذ أواخر سنة الثورة الثانية. والغريب أنها حرصت على احتلال الريف الشمالي بأكمله، بما فيه المعابر الحدودية مع تركيا، ومع ذلك فقد تركت قريتَي الأعداء، "نُبّل" و"الزهراء"، رغم أنهما تقعان بين اثنتين من قواعدها المهمة: مطار "منّغ" في الشمال، و"حريتان" و"عندان" في الجنوب. تركتهما "داعش" وهما على بعد كيلومترات قليلة من قواعدها وساقت الأرتال من تلك القواعد لغزو "الأتارب" البعيدة في الغرب.
لماذا صنعت ذلك؟ ولماذا تركت كل ما سبق ذكره من مناطق محتلة، واحتلت الأراضي المحررة؟ لو عثرنا على الجواب فسوف نحل قطعة مهمة من الأحجية.
-2-
نجحت داعش في تطبيق إستراتيجيتها القائمة على احتلال الأراضي المحررة باستعمال عدد من الأساليب (التكتيكات)، كان أهمّها اختراق "الخواصر الرخوة" في الجسم العسكري الثوري وعدم إهدار مواردها البشرية المحدودة في معارك جانبية مع الأقوياء.
في تشرين الأول الماضي فقدت "داعش" طريق الشمال الواصل من الرقة إلى ريف حلب الشرقي عبر "عين عيسى" بعد معارك طاحنة خاضتها مع عشيرة "الفدعان" (وهي فرع من قبائل عنزة) بين تل السمن وعين عيسى. وبما أنها لا تستغني عن ربط قاعدتها في الرقة بمناطق نفوذها في الريف الحلبي، وحيث إن السيطرة على الطريق الشمالي كانت صعبة بسبب وقوعه في مناطق نفوذ "الفدعان"، فقد قررت "داعش" السيطرة على الطريق الجنوبي الذي يصل الرقة بالريف الحلبي الشرقي عبر "مسكنة"، وكان ذلك هو السبب في غزو "مسكنة" والاشتباك مع أحرار الشام.
لقد تركت "داعش" الطريق الشمالي واختارت المرور عبر "مسكنة" التي تسيطر عليها حركة أحرار الشام تطبيقاً لقاعدة "التسلل عبر الخواصر الرخوة"، والخواصر الرخوة عندها هي الكتائب والجماعات التي لا تطيق المواجهة المباشرة لواحد من سببين: إما لأن عدد مقاتليها قليل وقدرتها القتالية ضعيفة، أو لأن تكوينها الفكري يمنع مقاتليها من الاشتباك مع مَن يعتبرونهم إخوةً في المنهج والجهاد.
السبب الأول يفسر استهداف "داعش" للكتائب الصغيرة المستقلة، فهي لا تبلغ من الحجم ما يتيح لها الدفاع عن النفس ولا ترتبط بكيانات كبيرة يمكن أن تدافع عنها، ومن ثَمّ فلا يوجد أي رادع يمكن أن يُضعف من شهية "داعش" لابتلاعها. لقد استطاعت "داعش" فعلاً أن تبتلع عشرات من تلك الكتائب في أقل من ثلاثة أشهر، كما أنها حطمت عشرات أخرى من الكتائب الصغيرة التي لم يعد لها وجود بعدما ترك مقاتلوها السلاحَ وعادوا إلى بيوتهم، أو انسحبوا إلى تركيا فرارًا من البطش الداعشي الذي لاحق كثيرًا من القادة والمقاتلين.
أما السبب الثاني فإنه يفسر استهداف "داعش" المستمر لحركة أحرار الشام، فهي المتضرر الأكبر من العدوان الداعشي ولكنها -في الوقت ذاته- أقل ضحايا داعش دفاعًا عن النفس وردًّا للعدوان. لقد راهنت "داعش" على أن قيادة الأحرار لن تستطيع قتالها؛ لأن كثيرين من مقاتلي الأحرار ينتمون فكريًّا إلى المدرسة السلفية الجهادية، وهي المدرسة ذاتها التي تعود إليها جذور المنهج الداعشي، ويبدو أنها قد نجحت في الرهان. إن قيادة الأحرار تواجه خيارًا صعبًا في هذه الأيام، فلو أنها قررت الدفاع عن النفس والمشاركة العلنية في الحرب ضد "داعش" فسوف تخسر جزءًا من جسمها العسكري الذي يُتوقَّع أن ينشقّ وينحاز إلى الدولة أو يقف على الحياد، أما لو صمّمت على اتخاذ موقف مهادن وثابرت على التمسك بالحياد الظاهر، وعدم رد العدوان فالأرجح أن تخسر الكثير، وأن تكون أكبر ضحايا البغي الداعشي.
-3-
ثاني أهم تكتيكات "داعش" التي توسلت بها إلى تطبيق إستراتيجيتها المذكورة هي استغلال حالة الفوضى التي نشأت في بعض المناطق المحررة، والظهور بمظهر المُنقذ الذي يقدم أفضلَ البدائل عن فصائل المجاهدين التي عجزت عن توفير الأمن وفشلت في ردع عصابات اللصوص وقطّاع الطرق.
عندما شُغلت الكتائب المجاهدة المخلصة بقتال النظام اضطرت إلى التغاضي عن مجموعات اللصوص التي انتشرت في كثير من المناطق المحررة، وأحالت حياة الناس إلى كابوس. لقد كثرت الأصوات المنادية بالتفرغ لقتال تلك العصابات، وتخليص الناس من شرّها وأذاها، ولو تسبب ذلك في وقف القتال مع النظام لبعض الوقت، ولكن النداءات الكثيرة ذهبت أدراج الرياح، حتى جاءت "داعش" فصنعت ما كان ينبغي على الجماعات المُجاهِدة أن تصنعه، فلاحقت اللصوص وقضت عليهم وأراحت منهم الناس، فكسبت رضاهم وحظيت بتأييدهم ممّا ساعدها على تكريس وجودها في بعض المناطق، فلما أدرك الناس أنهم قايضوا الأمن بالحرية والكرامة وأرادوا استرجاع ما فقدوه منهما كان الأوان قد فات، فقد ضربت داعش جذورها عميقة في الأرض، وصار اقتلاعها من الأمور العسيرة.
لعل هذا الدرس من أبلغ ما ينبغي على المجاهدين أن يفهموه، فإن الناس لا يستطيعون الحياة إذا فقدوا الأمان وإذا تسلطت عليهم عصابات اللصوص، ولو أنهم عجزوا عن الصمود فإن حاضنة الثورة سوف تنهار وسيخسر المجاهدون العمق الشعبي اللازم لوجودهم. من أجل ذلك يتوجب على الجماعات المجاهدة، وعلى "الجبهة الإسلامية" بشكل خاص، أن تكرّس قوتها لمحاربة اللصوص والقضاء على كتائبهم وعصاباتهم، ولتعلم أن قتال أولئك الفاسدين المفسدين مقدَّمٌ على قتال النظام، وأن الانتصار عليهم هو الطريق إلى الانتصار عليه.
-4-
استعانت "داعش" - في حملتها لتحرير المناطق المحرّرة- بعامل مهم جدًّا، وهو "الفكر الداعشي" الذي يحمله مقاتلوها، فالقتال عندهم مؤسَّس على تصنيف الخصم من حيث الديانة والاعتقاد لا من حيث علاقته بالثورة أو النظام، والكفّار هدف مشروع للقتال؛ لأنهم كفار وليس بسبب أفعالهم، ولذلك نجد أن حرصهم على قتل النصيريين والرافضة والكفار أكبر من حرصهم على تحرير سوريا وتخليص السوريين من الأسْر والعذاب.
وحسب تصنيفهم فإن قتال المرتدين مقدَّم على قتال الكفار، وهذا يفسر ما يشاهَد من شدتهم على مخالفيهم من الفصائل الجهادية الأخرى، فإنها شدة لا نكاد نلاحظها على النظام نفسه؛ لأنهم لُقِّنوا أن تلك الجماعات مرتدة وأنها صحوات صُنِعت على عين الغرب لقتالهم والقضاء على مشروع "دولة التوحيد" التي يقاتلون من أجلها كما يظنون.
إن الخطر العظيم الذي ينشأ عن تلك العقيدة هو سهولة تحويل جيش "داعش" إلى جيش من القَتَلة بمجرد إقناعهم بأن الخصم كافر أو مرتد، وما أسهلَ ذلك على عقول سلّم أصحابُها قيادَها لأمرائهم، وعزلوها عن التلقي من غيرهم، فإن قيل لهم: إن "أحرار الشام" و"صقور الشام" و"جيش الإسلام" صحوات. فإنهم يتحولون في طرفة عين إلى أعداء يتقربون إلى الله بقتالهم وقتلهم، وإذا أراد قادتهم احتلال قرية من القرى التي تسيطر عليها بعض الكتائب الأخرى فما عليهم إلا أن يخبروهم بأنهم ذاهبون إلى قرى النصيرية والرافضة، وقد تواترت الروايات بحصول ذلك في كثير من الغزوات التي شنّتها "داعش" على المدن والقرى المحررة.
-5-
يمكننا أن نعزو جزءًا كبيرًا من نجاح "داعش" العسكري وتمددها السريع إلى الأساليب السابقة، غير أن العامل الأهم وسبب نجاحها الأكبر هو "المنظومة الأخلاقية" التي يحملها مشروعها، فقد نجحت في احتلال مناطق واسعة في سوريا؛ لأنها استعملت أساليب يعجز عامة المجاهدين عن استعمالها، أساليب تقوم على الكذب والمكر والخديعة والغدر والخيانة.
كان في خطتي أن تشمل هذه المقالة أساليبَ "داعش" كلها، ثم وجدت أن هذه النقطة الأخيرة طالت بحيث صارت تستحق أن تُفرَد في مقالة مستقلة، فأرجو احتمال التعديل الذي طرأ على فكرة المقالة الأصلية التي كان ينبغي أن تصدر في جزأين، هذا هو الثاني منهما، وسوف أختم بالجزء الثالث الذي سأخصّص أكثره -إن شاء الله- لبيان دور المنظومة الأخلاقية الداعشية في تحقيق مشروع احتلال سوريا.