لماذا هذا الشوق والحنين إلى الخلافة الإسلامية
( منقول ) - بقلم : حسن العطار – إيلاف
16 / 2 / 2015
===============
الخلافة الراشدة هي أولى دول الخلافة الإسلامية التي قامت عقب وفاة الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم) يوم الاثنين 12 ربيع الأول سنة 11 هجرية، واستمرت ثلاثون عاما حتى سنة 40 هجرية. توالى على حكم الدولة أربعة من كبار الصحابة وهم: أبو بكر ابن أبي قحافة، وعمر ابن الخطاب، وعثمان ابن عفان، وعلي ابن أبي طالب، رضوان الله عليهم جميعا.
بلغت الدولة الإسلامية أوج اتساعها خلال عهد الخليفة الثالث عثمان، فامتدت أراضيها من شبه الجزيرة العربية إلى الشام فالقوقاز شمالا، ومن مصر إلى تونس غربا، ومن الهضبة الإيرانية إلى آسيا الوسطى شرقا. وبهذا تكون الدولة قد استوعبت كافة أراضي الإمبراطورية الفارسية الساسانية وحوالي ثلثي أراضي الإمبراطورية البيزنطية. وقد وقعت أغلب الفتوحات الإسلامية في عهد “عمر” الذي تم اغتياله.
أخذت المشاكل تدب في جسم الدولة الإسلامية خلال عهد “عثمان”، عندما وقع الانقسام بين المسلمين لأول مرة وأدى إلى مقتله. ثم تفاقمت المشاكل بين المسلمين في عهد “علي”، الذي تم اغتياله ليلة التاسع عشر من شهر رمضان سنة 40 للهجرة. انتهت الدولة الإسلامية واقعيا بعد مقتل “علي”، دون اتفاق المسلمين على اسلوب واضح لاختيار الخليفة . فاختيار “أبو بكر” تم نتيجة تغلب المهاجرين على الأنصار في سقيفة بنى ساعدة، “وعمر” تم اختياره بتوصية مكتوبة من “أبو بكر”، “وعثمان” اختير من بين ستة أشخاص حصر “عمر” الخلافة فيهم، “وعلي” تم اختياره من قبل أغلبية المسلمين المتواجدين في المدينة وقتها وبعض الأمصار.
حديثنا في هذه العجالة ليس بخصوص الخلافة الراشدة التي امتدت ثلاثون عاما فقط، فتلك فترة قصيرة جدا لا يمكن الاعتداد بها في الحكم على نجاح أو فشل نظام الحكم في حياة الأمم. وفي الوقت نفسه لا أحد ينكر أن الخلاف الذي وقع بين المسلمين في أواخر عهد “عثمان” وطوال فترة “علي” كان بسبب النزاع على تقاسم السلطة والثروة التي تراكمت نتيجة الفتوحات التي اشرنا إليها.
حديثنا هنا عن الدولتين الأموية والعباسية اللتين امتدتا لأكثر من ستة قرون. فالدولة الأموية التي أقامها “معاوية ابن أبي سفيان” بعد أن استحوذ على السلطة بحد السيف، ثم أورثها لابنه “يزيد” بعد حوالي 20 عاما أي في سنة 60 للهجرة في سابقة لم يعهدها المسلمون في تاريخهم وهي سنة التوريث التي قصمت ظهر الأمة الإسلامية حتى عصرنا الحاضر. ماذا فعل “يزيد” بمن رفض مبايعته؟ قتله للإمام الحسين ابن علي (حفيد الرسول وسيد شباب أهل الجنة باعتراف المسلمين جميعهم) جريمة بشعة معروفة، افاض فيها الرواة، وذكراها تتجدد سنويا منذ وقعت عام 61 هجرية، لذا لا أرى حاجة للمزيد.
هناك حادثة أخرى لا تقل بشاعة وتمس العقيدة في الصميم، ولكن الرواة يعبرونها في عجالة وهي موقعة الحرة التي وقعت في المدينة المنورة سنة 63 هجرية حيث هاجم جيش “يزيد” بقيادة “مسلم ابن عقبة” المدينة حين خلع اهلها بيعته، وبعد أن انهزم أهل المدينة أصدر قائد الجيش أوامره باستباحة المدينة ثلاثة أيام، يذكر أنه قتل فيها حوالي 4500 رجل، وفضت بكارة الف فتاة، وبالت وراثت الخيول في المسجد النبوي الشريف. كل ذلك بأمر من خليفة المسلمين “يزيد ابن معاوية” الذي كتب لقائده: “أدع القوم ثلاثا فإن أجابوك وإلا فقاتلهم، فإذا ظهرت عليها فأبحها ثلاثا، فكل ما فيها من مال أو دابة أو سلاح أو طعام فهو للجند، فإن مضت الثلاث فاكفف عن الناس”. لم يكتفي “مسلم ابن عقبة” باستباحة المدينة، بل طلب من أهلها أن يبايعوا “يزيد” على أنهم عبيد له، يفعل فيهم وفي أولادهم وفي أموالهم ما يشاء.
أما الخليفة الأموي الرابع (إذا استثنينا خلافة معاوية ابن يزيد التي استمرت لفترة شهرين فقط) “عبد الملك ابن مروان” الذي خلف أباه عام 65 هجرية، فقد طلب من قائد جنده “الحجاج ابن يوسف الثقفي” التوجه إلى مكة المكرمة عام 73 هجرية للقضاء على ثورة “عبد الله ابن الزبير”، فقام “الحجاج” بمحاصرة مكة وقطع عنها الامدادات الغذائية لفترة حتى تمكن من دخولها منتصرا. دخل “الحجاج” مكة وأخذ البيعة من أهلها، وقام بإعدام “ ابن الزبير” ومعاونيه، وصلب اجسادهم في الحرم وسلخها.
وكالعادة فقد ارسل “الحجاج” رؤوس ضحاياه إلى الخليفة الأموي في الشام. ولتبرير جريمته، ارتقى المنبر في الحرم المكي وخطب في الناس قائلا: “كان ابن الزبير من خيار هذه الأمة حتى رغب في الخلافة، ونازعها أهلها، وألحد في الحرم، فأذاقه الله من عذابه الأليم، وإن آدم (عليه السلام) كان أكرم على الله من ابن الزبير، وكان في الجنة وهي اشرف من مكة، فلما خالف أمر الله وأكل من الشجرة التي نهي عنها أخرجه الله من الجنة”. هل هناك حجة أقوى من هذه لتبرير قتل المعارضين والتمثيل بأجسادهم؟ أما “عبد الملك” فقد خطب على منبر الرسول (ص) في المدينة بعد مقتل “ا بن الزبير” بسنتين، اي عام 75 هجرية قائلا: “والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه”. وقد خلد نفسه بذلك حيث وصفه “الزهري” بأنه أول من نهى عن الأمر بالمعروف.
أما الدولة العباسية، فقد قدمت نفسها بنفسها على لسان مؤسسها “السفاح” الذي أعلن من على المنبر يوم مبايعته قائلا: “أن الله رد علينا حقنا، وختم بنا كما افتتح بنا، فاستعدوا فأنا السفاح المبيح، والثائر المبيح”. وقد أثبت “السفاح” أنه جدير بهذا اللقب، فقد بدأ حكمه بقرارين يغنيان عن التعليق، لم يسبقه إليهما أحد قبله ولم يأتي بمثلهما أحد من بعده. القرار الأول (الحادثة الأولى) هو أمره بنبش قبور خلفاء بني أميه، وإخراج جثثهم من قبورهم، وجلدها وصلبها، ثم حرقها ونثر رمادها في الريح، وقد تم هذا بالفعل. وهذا من الأسباب التي دعت الكثير من الأمويين إلى الهروب إلى الأندلس.
أما الحادثة الثانية التي رواها “ابن الأثير” في كتابه “الكامل في التاريخ” فتذكر ما يلي: “دخل شبل ابن عبد الله مولى بني هاشم (وفي رواية أخرى سديف) على عبد الله ابن علي (وفي رواية أخرى على السفاح) وعنده من بني أمية تسعين رجلا، استأمنهم على أرواحهم، ودعاهم إلى طعام معه. فأقبل عليه شبل، وقال شيئا من الشعر يؤلب فيه السفاح على هؤلاء الرجال، فأمر بهم فضربوا بالعمد حتى قتلوا، وبسط عليهم الأنطاع، وأكل الطعام عليها وهو يسمع أنين بعضهم حتى مانوا جميعا”. هذا غيض من فيض، ومن أراد معرفة المزيد فعليه بقراءة كتب التاريخ التي تنضح بكل ما لا تقبله النفس البشرية السوية.
أين كان الفقهاء وعلماء الدين من ذلك كله. بعضهم كانوا مستنكرين لهذه الجرائم ولكنهم لزموا الصمت خوفا من القتل أو التنكيل، والبعض الآخر ظل صامتا – لا موافقا ولا مستنكرا – من أجل الحصول على الهدايا والعطايا.
أبعد الذي ذكرناه، لماذا هذا الاستنكار مما تقوم به داعش في دولتها الإسلامية التي أعلنتها، وما تقوم به كذلك المنظمات الإرهابية الأخرى كالقاعدة وطالبان وجبهة النصرة وغيرها في مناطق النزاع والحروب، من حز الرؤوس وصلب الجثث وإلقاء البعض من فوق أسقف المنازل لقتلهم، والسبي والنهب واحتجاز الرهائن والمطالبة بالفدية وبيع الجواري في سوق النخاسة. هذه الجرائم البشعة لم يخترعوها حديثا، بل اجترحوها من ممارسات خلفاء بني أمية وبنى العباس ضد كل من ثار على ظلمهم وتعسفهم، وكلها موثقة في كتب التاريخ.
أتعرفون من بدأ قتل الخصوم برميهم من على سقوف المنازل؟ أعتقد أن أول من فعلها هو “عبيد الله ابن زياد” والي “يزيد” على الكوفة بعد أن ظفر بـ “مسلم ابن عقيل” ابن عم “الإمام الحسين” ورسوله إلى أهل الكوفة لأخذ البيعة له بناء على 12 ألف خطاب ارسلوها إلى الإمام يطالبونه الحضور لمبايعته، ولكنهم خذلوه. وبعد أن استسلم “مسلم” لابن زياد في معركة غير متكافئة، كانت عقوبته القتل برميه من فوق سقف قصر الإمارة.
التاريخ الإسلامي بعد وفاة الرسول (ص) لم يكن كله صفحات بيضاء ناصعة كما يعتقد الكثيرون، بل هو كتاريخ الأمم الأخرى يحتوي كذلك على صفحات سوداء مظلمة وعلينا الاعتراف بذلك لنتمكن من إصلاح أنفسنا.
يقول الشيخ “علي عبد الرزاق” في كتابه “الإسلام وأصول الحكم”: “تلك جناية الملوك واستبدادهم بالمسلمين، اضلوهم عن الهدى وعموا عليهم وجوه الحق، وحجبوا عنهم مسالك النور باسم الدين، وباسم الدين ايضا استبدوا بهم وأذلوهم، وحرموا عليهم النظر في علوم السياسة، وباسم الدين خدعوهم وضيقوا على عقولهم، فصاروا لا يرون لهم وراء ذلك الدين مرجعا حتى في مسائل الإدارة الصرفة، والسياسة الخالصة. لا شيء في الدين يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى في علوم الاجتماع والسياسة كلها، وأن يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له واستكانوا إليه، وان يبنوا قواعد ملكهم ونظام حكومتهم على احدث ما انتجت العقول البشرية، وأمتن ما دلت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم”.
وأنا أضيف: أليس من الأفضل إلى العرب والمسلمين أن يؤسسوا دولهم على مبدأ المواطنة والعدل، والحقوق والواجبات المتساوية، ودولة القانون التي تحترم الحريات والمعتقدات الفردية والشخصية، كما هو حاصل في الدول المتحضرة غربا وشرقا، وينسوا هذا الوهم المسمى “خلافة إسلامية”.
آخر الكلام: “المسلم من سلم الناس من لسانه ويده. والمؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأعراضهم”. (حديث شريف). فلاسفة التنوير لهم قول مشابه: “المؤمن هو الإنسان المحب للخير، النابذ – أي الكاره- للشر، الخادم للمجتمع”. إذا كنت من هؤلاء، فأنت ممن يحبهم الله، ولا يضيرك الطريقة التي تعبد بها الله طالما أنت معتقد بصحتها.