وصرَخَ في وجه الضابط العلوي: السيد الرئيس يصلّي ألا تراه؟ مهدي محمود – أورينت نت
التحقتُ بخدمة العلم عام1997م في العشر الأواخر من رمضان من ذلك العام. كان أول احتكاك لي مع الطائفة العلوية، كنت أسمع عنهم، ولكن في خدمة العلم أصبحت في وسطهم. ...فأول شيء فعلته ضبطت لساني، فقد كنت مشفوعاً بتواصي الأهل، بأن أي كلمة على الدولة أو الرئيس، ستكون القاضية، استلمت البدلة العسكرية ووزعونا على المهاجع، وفي اليوم التالي خرجنا للرياضة وللتدريبات العسكرية الشاقة.
وسألنا الضابط: من منكم صائم...؟!
رفعت يدي مع عدد قليل من الموجودين، توقعت حسب تربيتي البيئية أنه سيكرمنا ويخفف عنا التمارين الرياضية والدروس العسكرية، لكن في الحقيقة أخذنا وبدأ يقسو علينا في التمارين، ثم شيئاً فشيئاً، تحولت التمارين إلى عقوبات، بالتمريغ على الوحل والطين، وبدأت العقوبات للصائمين تزداد شيئاً فشيئاً قبل المغرب بساعة، وفي وقت السحر لا يوجد سحور أيضاً وربما بعض الأحيان لا يفتح المطعم أصلاً، وكنا نشتري من (الندوة) بعض البسكويت، ونتسحّر ونتقوّى به، وكان عندما يفتح المطعم على السحور يأتي الضباط ويسرقون المواد الغذائية بحجة أن الصائمين قد أكلوه جميعاً، فلا أحد سيراقب المخزن والمطعم في الرابعة صباحاً، مما اضطر قائد الوحدة العسكرية لمنع السحور بحجة السرقات التي تحصل ليلاً!
بدأنا نشتكي من معاملة الصائمين القاسية، ظناً منا أنها ممارسات فردية من بعض الضباط، ولكن لا حياة لمن تنادي فلم يستجب لنا أحد، والحمد لله كنت مسروراً جداً بأن ذهب شهرُ الصوم ولم أفطركما فطر غيري... وما إن انتهى العيد وعاد الضباط حتى سمعتُ اسمي على مكبرات الصوت فلان وفلان إلى ضابط الأمن (وكان اسم ضابط الأمن يثير الرعب والخوف فهو ضابط علوي مبعوث من قبل المخابرات الجوية، لمراقبة الأمن في القطعة العسكرية وحتى اللواء كان يخاف منه) ذهبنا إلى ضابط الأمن كان يضع على كتفيه رتبة عقيد ووجه شاحب، تظهر عليه دلائل اللعنة والغضب، سواد وجه غطى على سواد الليل، ثم بدأ بالتوبيخ والُّسباب والشتم:
"لماذا تصلون... أنتم لا تعرفون ما معنى الصلاة في القطع العسكرية... ألا تعلمون بأن سورية فيها مسلمين وفيها غير مسلمين، ألا تعلمون بأن صلاتكم ستثير الذين لا يصلون، وربما سيشعرون بالنقص، وربما يحصل شجار، ألا تشعرون بغيركم يا ..... ؟!!"
وبدأ يطلق سيلاً من الوعيد والتهديد، أذكر مما قال أيضاً:
"أتعرفون بأنه بتوقيع مني، لن تروا الشمس لعشرين سنة... واسألوا من كان قبلكم "
في الحقيقة بدأنا نخاف ونرتجف، ثم أخذته الحماسة الوطنية وراح يكلمنا بكلام معسول جميل قال لنا:
"يا بني، الصلاة هي حب الوطن، الصلاة هي خدمة العلم، يا بني الصلاة كرهك لإسرائيل، الصلاة تعظيمك لبلدك سورية، الصلاة احترامك للضباط والمسؤولين!!!"
ساعتان من الزمن، بين تهديد ووعيد بين ترهيب وترغيب يعلو صوته تارة، وينخفض صوته تارة، كنا في مقتبل العمر، ولكن كان بيننا رجل يكبرنا بعشرين سنة كان يؤجل خدمة العلم لأنه كان معيلاً لإخوته، وكان اسمه (جابر).
هذا الأخ كان يوقظنا إلى صلاة الفجر ويصلي بنا، كان واعية ناضجاً، فما كان منه إلا أن قاطع العقيد الخبيث، وقال له بكل ثقة وإيمان:
"كيف لا أصلي، ألا ترى أنا السيد الرئيس حافظ الأسد يصلي ؟ ألا تراه على التلفاز؟!"
صُعق الضابط، ولم ينبس ببنت شفة، ونظر إليه بوجوم وغضب، فلقد استخدم مصطلح "السيد الرئيس"، وما أدراك ما مصطلح السيد الرئيس، وماذا سيجيب...؟ هل سيقول له أن السيد الرئيس يصلي رئاءً ونفاقاً وسمعة... لأنه يحكم أكثرية سُنية، وصلاته نوع من البروباغندا الإعلامي؟! كانت هذه الكلمة هي اللحظة الفارقة التي أنهت اللقاء وصرفنا الضابط الأمن بسرعة وأخذ هذا الرجل، وسمح له سراً أن يصلي ولكن منعه من الصلاة الجماعية، ومع ذلك ظل (جابر) يوقظ المصلين ويحثهم على الصلاة، وفي الحقيقة، لم يتجرأ أحد أن يصلي خلفه، فمنا من ترك الصلاة أصلاً، ومنا من أصبح يصلي سراً، ومنا من كان يقضي صلاته في البيت أي بعد شهر من موعد الصلاة، وكنا فقد نردد قوله تعالى (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى) ونقول سراً ماذا سيفعل الله تبارك وتعالى بهذا الضابط وبحافظ الأسد لمنعنا من الصلاة!
بعد ستة أشهر انقضت الدورة. وبدأنا نودع بعضنا البعض فمسكت على يد (جابر) وقلت له:
" الله يحميك.. أنت لم تترك الصلاة لساعة واحدة وتجرأت أمام ضابط الأمن وقلت له: لن أترك الصلاة ولم تخشَ في الله لومة لائم" ودمعت عيني، كيف ثبت ولم أثبت؟ كيف نافح عن الصلاة ولم أنافح؟ كيف خفتهم وقصرت في صلاتي، كيف لم أصبر على أمر الله؟!
وتمر بنا السنين.. وتوقفنا إشارة المرور وإذ أسمع صوت مشادة كلامية وضجيج.. أنظر فإذا شرطي المرور يتشاجر مع أحد السائقين، يريد أن يكتب له مخالفة مرورية أو يبتزه برشوة مالية لكن السائق يرفض، مما أغضب شرطي المرور ذو اللهجة الساحلية العلوية، فأخذ هذا الشرطي يسب ويشتم الذات الإلهية "تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً" مما أغضب السائق فانهال عليه ضرباَ، فاندهشنا جميعاً: شرطي علوي يُضرب جهاراً نهاراً وأمام الآلاف، ويرتدي بذة الشرطة ماذا سيحل بالجاني؟
ثم قام الشرطي واتصل بقسم الشرطة وجاءت الشرطة بسرعة وأخذوا المتشاجرين إلى القسم، فما كان مني إلا أن دفعني الفضول وركنتُ السيارة على جانب الطريق وبدأتُ أنتظر قدوم دورية المخابرات إلى قسم الشرطة، لتأخذ المتهم إلى ما وراء الشمس!
ما هي إلا نصف ساعة حتى خرج الرجلان. أمعنت النظر بالرجل الشجاع فإذا هو (جابر) صديقي في الخدمة، ولكن كان قد كبر كثيراً وهو لم يتذكرني أصلاً لولا تذكيري له بموقف الضابط الأمن لما تذكرني، فقلت له:
" لماذا ضربت الشرطي العلوي في قارعة الطريق؟"
قال لي: "لأنه سب الذات الإلهية، فما تحملت وقلت في نفسي لا تساوي حياتي أن يُسب الله وأنا ساكت"
قلت له: "وكيف تركوك في قسم الشرطة.. لماذا لم تأتِ المخابرات؟"
فقال لي: (إن الله يدافع عن الذين أمنوا)
قلت: "بالله عليك أخبرني كيف نجوت؟"
قال: " عندما قال الشرطي للضابط (رئيس قسم الشرطة)هذا ضربني أمام الناس فقلت للضابط هذا صحيح، أنا ضربته فقال لي: "تعترف بكل وقاحة يا ابن الكلب، من أنت... حتى تضرب ابن الدولة..."! قلت له: "نعم أنا ضربته: لأنه سب ربّ السيد الرئيس"، فقال لي الضابط: "أأنت مجنون" قلت: "لا، أليس الله، هو ربُّ السيد الرئيس" قال: "طبعاً"، قلت: "فأنا ضربته، لأنه سب ربّ السيد الرئيس" فقال الضابط للشرطي: "إذا كتبت هذه الأقوال في ضبط الشرطة، ستتحولون لقضية سياسية وستكون القضية عند ملفات أمن الدولة"، فقال الشرطي: "ماذا أفعل؟" قال له الضابط: "اعفُ عنه وصالحه"، قال: "بعد أن ضربني أصالحه؟" قال الضابط: "خير لك من أن تقف أمام القاضي بتهم سب ربّ السيد الرئيس"؟؟ فتصالحنا!
قلت له: "بهذه البساطة؟" قال: نعم، قلت: لجابر: "إلى متى ستظل تقف على شفا حفرة من النار، ولو كنت عند غير هذا الضابط لما نجوت" قال لي: "من أنجاني منه، سينجيني من غيره"، ثم همس في أذني وقال: "فهمت عليهم طالما أنك تعظم صنمهم ورئيسهم فذنبك مغفور المهم أن تكون سريع البديهة".
وازداد إعجابي بجابر للمرة الثانية، وأنا انظر إليه وأتذكر قوله تعالى) من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) بهذه الروح الإسلامية العالية، كان جابر يتحدى الكفر والإلحاد، لا يبالي بالصعاب طالما أنها في سبيل الله.
وبعد سنوات جاءت الثورة...
ويتصل صديق لي ويخبرني باستشهاد (جابر) بمجزرة الكيماوي في الغوطة بريف دمشق رحمك الله يا جابر تعلمنا منك الثبات على الإيمان، والتضحية لدين الله في أحلك الظروف، هكذا الدنيا مواقف، قال تعالى (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)
مشاركة من .حسين علي
عدل سابقا من قبل الشمقمق الدمشقي في الجمعة ديسمبر 19, 2014 4:08 pm عدل 1 مرات