التسامح الديني المسيحي والتعصب الإسلامي 816022014094858
المختصر/ قد يبدو عنوان هذه المقالة صادماً ولكنه أصبح واقعاً ترسخ في وجدان غالبية الناس, حتى آمن به الكثيرون منا للأسف الشديد. وكما عودتكم فإني لن ألجأ إلى البلاغة الفارغة أو الخطابة الحماسية, بل ولن ألجأ حتى إلى حقائق إيمانية, لا تُلزم بالضرورة غير المسلمين, وقد يرفضها بعض المسلمين "العقلانيين". ولكنني سأعرض الحقائق المجردة وفق العقل والمنطق, لتحكمون بأنفسكم على هذه الشبة وما بُني عليها من مفاهيم خاطئة.
انتشر دين عيسى عليه السلام في البداية بين بني إسرائيل المؤمنين بالله الواحد. والمسيح نفسه قال إنه لم يأتِ لينقض الناموس, بل جاء مصدقاً لما بين أيديهم من التوراة, ومن ثم مقراً بالتوحيد بالله تعالى. ولهذا بالذات فإن التأليه لم يجد أرضاً خصبة في فلسطين, ولكنه نما خارجها بين بعض المسيحيين الجدد من ذوي الأصول الوثنية. وحتى هؤلاء, لم يزدهر التأليه بينهم بشكل واضح يشار إليه بالبنان, بل ظهر بين جماعات متناثرة منهم, ومحدودة التأثير. كما أنها لم تكن متفقة فيما بينها على طبيعة التأليه؛ فمنها من جعل المسيح إلهاً واحداً, وأنه هو الله ذاته دون أية أقانيم, ولكنه نزل وتجسد, ثم عاد إلى عليائه. ومنها من جعل المسيح أقنوماً آخر لله, ومساوياً للآب الذي جعلوه أقنوماً ثانياً لذات الإله. ومنها من أدخل مريم العذراء ضمن قائمة أقانيم الله, ومنها من جعل الروح القدس من ضمن تلك الأقانيم. ومنها من رفض أن المسيح والآب أقنومان لإله واحد وجعلهما إلهين مختلفين عادل وصالح. ومنها من قال إن الآلهة هي صالح وطالح وعدل متوسط بينهما, ومنها من قال إن الله مبدئي واحد انبثقت منه سبعة آلهة, ومنها من زاد على ذلك بكثير مثل "برديصان"[1] أو غيره. ولولا تضافر ظروف معينة جعلت الإمبراطور قسطنطين (306 - 337م) يستخدم إحدى تلك الجماعات في فترة من الفترات (المجمع المسكوني الأول في نيقية عام 325م) نتيجة لحسابات سياسية خاصة, لما قويت شوكة المؤلهين على حساب الأغلبية الموحدة.
ولو استعرضنا تاريخ الإمبراطورية الرومانية بعد اعتمادها للدين المسيحي (النيقاوي) لوجدنا إبادة جماعية واضحة لكل مخالفيها الوثنيين, والموحدين, بل وحتى المؤلهين من أصحاب الآراء الأخرى كالكيرنثيين والكربوكراتيين والبربرانيين وغيرهم. وخلال عقود قليلة من الزمن لم يبقى في الإمبراطورية أي دين آخر غير المسيحية النيقاوية. والمتتبع للتاريخ الديني الأوربي يجد أن الشعوب البعيدة عن تأثير السيطرة الرومانية كانت أقرب إلى الفطرة، ومن ثم ظلوا على التوحيد. ولكن هذا لم يستمر طويلاً, فقد شنت الإمبراطورية "المقدسة" حروباً طاحنة أخضعت من خلالها كل أوربا تقريباً إلى سيطرتها, وأبادت كل من رفض اعتناق التثليث من الشعوب المسيحية الموحدة, كالقوط[2] والفاندال[3]، واللومبارد[4] والبريطانيون والسويبيون[5] والهيرمينديورين[6] والتوتونين والألان والسويفان[7] والسلت[8] وقبائل الهيرولى وأغلب القبائل الشمالية بشكل عام. وأعتنق الكاثوليكية بحد السيف أغلب سكان البلاد المفتوحة, وحافظت قلة منهم على إيمانها بالسر, ولكنها لم تصمد تحت ضربات الكنيسة وتفتيشها المستمر حتى اندثرت كلياً, ولم يعد لها أي وجود فعلي في غرب أوربا وشمالها.
كذلك حاولت الإمبراطورية الرومانية الشرقية فعل المثل في شرق أوربا والأراضي الآسيوية الواقعة تحت سيطرتها ولم يعد هناك أي وجود يذكر لطوائف موحدة كالآريوسيين أو الإسينيين (العيسويين) أو الناصريين أو النسطوريين, بل وأبيدت كل كتبهم ولم يبقى لنا أي وثائق عنهم إلا في كتابات الكنيسة المنتقدة لهم, والتي أثبتت المكتشفات الحديثة من لفائفهم المخبئة في الجبال, أن الكتابات الكنسية عنهم لم تكن تفتقر إلى الدقة فحسب, بل هي محض افتراء وتشويه كاملين, ونزع لصفة التوحيد عنهم, والإيحاء بأنهم مؤلهين بشكل آخر, لا يتناسب مع الإيمان الأرثوذكسي الصحيح.
والثابت أيضاً أنها حاولت, بوحشية مفرطة, إبادة الطوائف المسيحية المؤلهة فعلاً, بل والمثلثة التي تتفق معهم بالإيمان النيقاوي والإضافات التي طرأت عليه في المجمعين المسكونيين التاليين (مجمع القسطنطينية سنة 381م, ومجمع افسس سنة 431م), ولكنها خالفتهم لاحقاً في بعض تفاصيل تأليه المسيح عليه السلام كالأقباط! وجاء الإسلام "المتعصب" ليرفع عن تلك الطوائف الإضهاد المسيحي "المتسامح" ويحميها من الإندثار ويمنحها الحرية الدينية الكاملة.
الغريب أن الأقباط, وغيرهم من الطوائف التي أنقذها الإسلام عندما فتح بلادهم هم نفسهم من يستنجدون الآن بالغرب المسيحي الذي اضطهدهم وحاول استئصالهم, ضد الإسلام الذي أنقذهم وحفظ لهام دينهم وكيانهم وحقوقهم على مر عصوره وباختلاف دُوَله, ويتجاهلون متعمدين تلك  الحقبة المفصلية الهامة من تاريخهم. والأغرب من تناسي التاريخ هو تزويره, كما حدث مع الموارنة  ليبرروا مساعدتهم للكاثوليك ضد المسلمين في الحروب الصليبية, وإدعائهم بأن اضطهادهم السابق من المسيحيين كان من جانب الأرثوذكس والبعاقبة (السريان حالياً) فقط, وأن سببه هو كاثوليكيتهم القديمة!!!
ألا تلاحظون معي غرابة بقاء الأقليات المسيحية في العالم الإسلامي رغم تعصبه, واندثار الأقليات المسيحية, بل والغالبية الموحدة من المسيحيين الآوائل في العالم المسيحي المتسامح!
دعكم من التاريخ, ألا تلاحظون الآن ما ثبت عن تمزيق المتسامحين للقرآن ورميه في القاذورات أثناء التحقيق والتعذيب في سجون غوانتنامو, وأبوغريب, وما خفي كان أعظم! ألم تلاحظون تهجم كبير المتسامحين البابا بنديكتوس السادس عشر على الإسلام وأخلاقياته, قبل أن يضطر للاستقالة هرباً من الفضائح الجنسية الكنسية؟! ألا تلاحظون منع النقاب بل وحتى الحجاب في المدارس والجامعات بل والشوارع أحياناً, ومنع بناء المآذن, ومنع الصلاة في الشارع في بعض بلاد التسامح! إن قلتم علمانية, ولا دخل للمسيحية بها, فما قولكم بالصلبان والنجم السداسية المعلقة على صدور الطلبة في نفس المدارس؟ ما قولكم بحجاب الراهبات, وبالكنائس والكنس الشاهقة؟ ما قولكم بإقامة القُداسات في الشوارع ورفع أصنام مريم والمسيح في المهرجانات؟ ألا يضر ذلك بالعلمانية؟!
ألا تلاحظون مطالبة المتسامحين بمناصب قيادية للأقليات المسيحية في البلاد الإسلامية بحجة عدم التميز على أساس ديني, وإقصاء موظفيهم الذين يسلمون كما حصل مؤخراً مع السفير الأمريكي في السودان جوزيف ستافورد وغيره؟  ألا تلاحظون تدخل المتسامحين سياسياً, وبل وعسكرياً إن اقتضت الظروف, في أي بلد قد يظهر فيه شبهة حكم اسلامي مثل الصومال أو أفغانستان أو الشيشان أو الجزائر أو نيجيريا أو مالي, وحالياً أفريقيا الوسطى؟! ألا تلاحظون أن أفظع الحروب وأكثرها دموية في العالم كانت بيد المتسامحين؟ وأنهم يحتكرون صناعة وحيازة الأسلحة الفتاكة ويسوقون الأسلحة الأقل تظوراً عبر العالم؟ لن أتحدث عن القنابل النووية, ولكن ألا تلاحظون أن طلعة جوية واحدة تحصد من الضحايا أكثر من عشرات الأسلحة الفردية والسيارات المفخخة التي يثور العالم على همجيتها ووحشيتها وتعصبها؟! ألا تلاحظون في نفس الوقت أن الأنظمة الدكتاتورية التي ينتقد الغرب المتسامح فسادها ليل نهار, مزودة بأسلحة متطورة نسبياً, ومن صنع نفس الغرب المتسامح؟! ألا تلاحظون أن من ينتهك العقوبات بالسر هم نفس المتسامحون الذين وضعوها بالعلن؟! وبعد ذلك يشن الغرب المتسامح حرباً شعواء في سبيل الديمقراطية ضد أنظمة أقل فساداً, فقط لشبهة توجه إسلامي؟!
في الحقيقة لم أقصد من وراء هذه المقالة الموجزة وتساؤلاتي في ذيلها إقناع غلاة المسيحيين أو حتى المحسوبين على الإسلام ممن يحاربونه بكل قوتهم, فكما قال تعالى: }إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم{ [يونس: 96 – 97], ولكني قصدت بعض من خُدعوا أو انبهروا من إخواننا المسلمين,
والله من وراء القصد.

 
[1] برديصان (154 – 222م) وكان يعتقد بكثرة الذوات الخالقة, ونقل مار "ميخائيل الكبير" و"ابن العبري"(جريجوريوس أبو الفرج الملطي) بأنه قال بثلاث ذوات أو طبائع كبار, وأربعة كائنات صارت 366 كائناً.
[2] سكان إسبانيا الوثنيون الذين تحولوا إلى المسيحية التوحيدية بتبشير من القس "أولفيلا"(أو "وولفيلا") 311-383 م. وقد ترجم الكتاب المقدس إلى لغتهم.
[3] أي المخربون أو المدمرون. وقد اكتسبوا اسمهم من تحطيمهم للأصنام التي أطلق عليها أسماء مسيحية.
[4] وهم الذين سبقوا القوط الشرقيين في السيادة على إيطاليا.
[5]شعب جرماني قادم من منطقة بحر البلطيق, كون مملكة قوية في غاليسيا. وبالتزامن مع مقاطعة بريطانيا ذاتية الحكم، كانت مملكة السويبيين في غاليسيا أولى تلك الممالك الرومانية الفرعية التي تشكلت نتيجة تفكك الإمبراطورية الرومانية الغربية.
[6] دعوا بعد ذلك بالـ الثورنجيان وهم الألمان.
[7] قبائل جرمانية أخرى.
[8] وتكتب أحياناً "الكلت"، وهم مجموعة من الشعوب الأذربية كان لهم حضارة عريقة (وصلت إلى أوج ازدهارها ما بين عامي 1200-200 قبل الميلاد) ولهم لغة وأساطير تميزهم عن الرومان واليونان
المصدر: البيان