المختصر/ بعيدا عن الوقوف مع الانقلاب الذي جرى في مصر في الثالث من يوليو/تموز عام 2013 أو ضده، بل حتى بعيدا عن كونه ثورة عظيمة أو انقلابا أثيما، فمن السهل أن نلاحظ أن المعركة بين طرفي المعادلة السياسية في مصر تدور منذ ستة أشهر -وإلى الآن- حول إقرار الواقع الجديد أو عرقلته.
فأحد الطرفين يريد أن يصل إلى نقطة مفادها أن الماضي القريب قد ولّى، وأن واقعا جديدا قد حل في مصر منذ الثالث من يوليو/تموز الماضي، وأن من يقول خلاف ذلك فهو واهم، وأما الطرف الآخر، فيقاوم ذلك كله، ويرى أن صعوبة إفشال الواقع المفروض بالقوة والخدعة لا تعني استحالته، بالرغم من التضحيات الغالية التي يفرضها.
أهمية الزعيم
ومن الوسائل التي وظفها نظام الثالث من يوليو/تموز للوصول إلى هدفه المشار إليه، ما شهدناه منذ الأيام الأولى له من محاولاتٍ دؤوبة لصناعة زعامة سياسية تلتف حولها الجماهير، وتترجم من خلالها عن آمالها في تحقيق الأمن الاجتماعي والاستقرار الاقتصادي، ليتسنى لهذه الزعامة أن تقود مصر في طريق آخر مخالف للنظام المعزول وتوجهاته.
وقد كان من الطبيعي أن يقع الاختيار في عملية صناعة الزعيم الجديد على عبد الفتاح السيسي قائد الحركة الجديدة، لتلميعه ووضعه بالتدريج في صدر المشهد الذي يتصورون أنه سينتهي بجلوسه على كرسي الرئاسة في مصر، حيث تعود الأمور إلى سابق عهدها قبل ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 ولو بالتدريج.
وتتكرر من جديد نظرية حكم العسكر القديمة، فيتولى الإدارة السياسية للبلاد أحد رجال الجيش، ولتكن مجالات الحياة الأخرى في الدولة ما تكون، على شرط أن تساعد على بقاء هذا "الثابت" الذي ما زالت الدماء المصرية تسيل من أجله بصورة غير مسبوقة في مصر الحديثة.
والحق أن الزعامات السياسية والاجتماعية المتميزة في كل أمة قد تحملت في مراحل التاريخ المختلفة للبشرية قدرا كبيرا من المسؤولية، وحققت كثيرا من الإنجازات التي تحتفي بها شعوبها، وتعدها أياما متميزة في تاريخها.
بل إن هناك من ذهب إلى أن التاريخ كله ما هو إلا مجموعة من الإنجازات المتميزة التي صنعتها الشخصيات العبقرية وأصحاب القدرات الفائقة من البشر.
والزعيم الفذ في حقيقته شخص مميز القدرات أتاحت له الظروف والأقدار مجالا للكشف عن هذه القدرات وإظهار الطاقات العقلية والنفسية والقيادية الكامنة في شخصيته.
ولهذا، فإن فكرة إنشاء كليات إعداد القادة لا تقوم على صناعة قيادة من لا شيء، ولكن تعتمد على إتاحة الفرصة وتهيئة الظروف أمام الشخصيات التي تحمل مواهب من هذا النوع لكي تبرز ما لديها من وجوه التميز والتفوق.
والزعامة الحقيقية يلدها التاريخ بعفوية، وتكشف الأيام عن وجهها بتلقائية بعيدا عن الافتعال والادعاء وصناعة الأساطير بالكذب والادعاء، والزعامة الحقيقية أيضا تثبت نفسها وقدراتها من خلال المواقع التي تشغلها والمواقف التي تشهدها، أي أن المواقف المتميزة هي التي تبرز الشخصية، وتختبرها لتثبت جدارتها.
الحالة المصرية
وإذا خرجنا من هذا التنظير العام إلى الحديث عن الزعامة التي اشتغلت على صناعتها في مصر أجهزة وشخصيات بذلت -وتبذل- في سبيل هذا جهدا هائلا منذ شهور، فسنجد أمامنا الحقائق التالية:
أ- الشخصية المستهدفة لصناعة الزعيم المرتقب رجل عسكري من شعر رأسه إلى أخمص قدميه، والمجال الذي استُهدِف إبرازه فيه هو المجال السياسي، ومن المعلوم أن كثيرا من الشخصيات طوال التاريخ وفي الشرق والغرب قد جمعت بين التفوق في هذين المجالين المتجاورين بطبيعتهما، إلا أن النجاح في أحدهما -خاصة العسكري- كان على الدوام سلّما للتفوق في الآخر، ولم نشهد عسكريا فاشلا تحول إلى زعيم سياسي كبير، أو قائد وطني بارز، وإن كنا قد رأينا العكس كما هي شهادة التاريخ.
ب- الشخصية المستهدفة لصناعة الزعيم في الحالة المصرية القائمة لم تتح لها الحياة العسكرية أن تبرز شيئا من المواهب الكامنة فيها كالتخطيط وقيادة العمليات وممارسة القتال، إن افترضنا وجود هذه المواهب التي يحق لأي أحد أن يشكك في وجودها أصلا. فالفترة الممتدة من عام 1973 إلى الآن هي أشبه ما تكون بفترة التراخي العسكري في مصر، وهذا يعني أن جيلا مصريا بأكمله مارس العسكرية نظريا فقط، ولم يتجاوزها إلى الممارسة العملية إلا في المناورات والتدريبات الخيالية، حيث لا عدو ولا حرب ولا قتال.
ج- قد نشهد للشخصية المستهدفة لصناعة الزعيم هنا بأنه يجيد إحكام خططه وترتيب أموره، فقد ظهر أمام خصومه بوجه يعجبهم، ولبس لهم لبوس الأتقياء، ولبّس عليهم حاله، حتى خدعهم وختلهم.
ولكن لا ننسى أنه كان في مواجهة خصم لا يملك من مثل وسائله شيئا، كما أن ترتيب الاعتداء على الشرعية -كما جرت فصوله في مصر- يدل على أن صاحبه لا يحسن النظر في العواقب، ولا يملك من الحصافة والذكاء ما يجعله يقدّر مدى التغير الذي يمكن أن يطرأ على عقلاء شعب ذاق طعم الحرية، وعرف حلاوتها، ولامس روعتها، ثم اكتشف ذلك الخصم الفاجر الذي يريد حرمانه منها.
د- ولو تسامحنا في هذا كله، وقدّرنا أن السيسي رجل عسكرية محترف، وأن ذكاءه في الإيقاع بخصومه دليل قاطع على كفاءته العسكرية والسياسية أيضا، وأنه الزعيم الضرورة كما رددوا، وأن مصر لن تقوم لها قائمة بدونه، وأنه ينبغي أن يحصل على منصب الرئاسة في مصر بدون انتخابات، أقول: لو سلّمنا بهذا كله، فإن الزعامة الحقيقية لا يمكن إبراز قدراتها عن طريق صناعة صورة مضادة لخصمه.
فلا يمكنني مثلا أن أثبت ذكاء وعبقرية حقيقية لشخص ما عن طريق وصم خصومه بالغباء والتخلف، ولا قوة وشجاعة حقيقية له بوصف منافسيه بالضعف والخور، ورحم الله أبا تمام الطائي حين قال عن جيش الروم الذي انتصر عليه جيش المعتصم في حرب "عمّورية":
سبعون ألفا كآساد الشرى نضجت جلودهم قبل نضج التين والعنب
فلو حقّر من شأن العدو الذي انتصر عليه الخليفة المعتصم بالله لكان الإنجاز الذي يحتفي به في هذا الشعر ضئيلا وحقيرا كذلك، فكان إثبات الشجاعة والقوة والكثرة للخصم دليلا على قوة المعتصم وشجاعته الفائقة.
وفي مقابل هذا، فإن المتابع لما يجري في مصر يجد أن معظم ما رُفعت به أسهم السيسي جاء عن طريق تقديم صورة مشوهة لخصومه، فأبرز صفاتهم التي سوقتها حملات صناعة الزعيم بدون دليل: الإرهاب وتبني العنف، وانعدام الوطنية ومعاداة الجيش، والتجارة بالدين، واعتناق أفكار تناقض صحيح الإسلام... إلخ.
وإزاء هذه الصورة البشعة للمخالفين لابد أن يكون من يقف في وجه مخططاتهم، ويكبح جماح عنفهم المزعوم، ويحول دون سيطرتهم على مقدرات الدولة وطنيا شريفا "نساؤهم حبلى بنجمه"!
صناعة الكارثة
هـ- يضاف إلى ما سبق، أن الزعامة الحقيقية قد تظهر على خط الأحداث فجأة، أو تقفز من أطرافها إلى قلبها في ساعات حرجة، إلا أنها وهي بهذه المثابة تأتي حلا لأزمة، لا صناعة لكارثة كما جرى في بر مصر وبحرها منذ أحداث يوليو/تموز الكئيبة، والتي أدخلت مصر في نفق مظلم، وإن كانت قد محصت واختبرت الذمم والضمائر والعقول في عالمنا تمحيصا كبيرا.
و- كذلك فإن اللعب على قضية استحضار الوعي الجماهيري وتغييبه أو صناعته على مقاسات خاصة بالوسائل المشروعة والمجرَّمة على السواء، بحيث يدعم ما يريده ولاة الأمر ويرفض ما يرفضونه، قد يكون دليلا على مكر وحيلة، ولكنه أيضا دليل على أن الزعامة القادمة جاءت من أجل نفسها وأهدافها، وليس من أجل المجتمع الذي تطمح إلى قيادته، وهذا جدير بإسقاط الزعامة من أصلها، ووصمها من الآن بعدم الأمانة على مسؤولياتها، فالزعامة عملية ذات طرفين، والأصل فيها هو الأمة المقودة ومصالحها.
وكم كان الأستاذ عباس العقاد ذكيا حين رصد إحدى خصال مؤسس باكستان محمد علي جناح التي امتاز بها، وكانت فاصلة في تحقيق نجاحاته واستقلال باكستان عن الهند، وهي أنه لم يكن ينساق وراء رغبات الجماهير، ولكنه كان يرود لها طريقها، ويبصّرها بما غفلت عنه، أي يوقظ الوعي ولا يزيفه، ولا يجامل الجماهير إن غفلت في الوقت ذاته.
"
ز- وإذا كانت المواقف هي التي تختبر الشخصية، وتثبت جدارتها بالزعامة أو عجزها عنها، فقد مرت مصر طوال الأشهر الستة الماضية بفرص كثيرة ومضايق عديدة، كانت تنتظر فاعلا لديه القدرة على انتشال الوطن من كبوته، وشجاعة الاعتراف بالخطأ، ولا يمكن أن يصلح لهذه المهمة سجين أو معتقل أو مطارد انعدمت لديه الوسائل والحيل، وإن كان الثبات يصنع أحيانا معجزات من هذا النوع. وأول من يُسأل عن جنوح السفينة، وإيقاعها فريسة للرياح الهُوج هم من جعلوا من أنفسهم ربابنة لها وليس لهم بذلك دراية ولا أهلية ولا شرعية.
ح- ولعل الظهور والاختفاء، أو التواري السينمائي الذي نُصح به الزعيم المصطنع، يترجم عن معنى أصعب في هذه الناحية، وهي أن الناصحين خشوا من اهتراء شخصيته في خضم المواقف الصعبة التي تمر بها البلاد، وعدم كفايته في سد الثغرات الكثيرة التي تتفتح أمامه على الرغم من مهارته في الختل والخداع، فالزعيم الحقيقي تبدو صلابته وسط الرياح السياسية والاقتصادية والاجتماعية الهوجاء، أما الزعامة المصطنعة فإن قليلا من الرياح الهابة قادرة على زلزلتها، وربما اقتلاعها من جذورها.
ط- ولكن ماذا عن الكاريزما؟ أليس المستهدف في عملية صناعة الزعيم في مصر نجما اجتذب قلوب العذارى، وقال الناس فيه ما قالوه في أفذاذ البشر، بل الخواص المصطفَين منهم؟
وهنا نعود إلى فكرة تزييف الوعي، فإن التقدير الجماهيري الواسع إن قام على المواقف والإنجازات فقد قام على حقيقة ناطقة، وإن قام على ادعاءات وأكاذيب فهو هشيم ستكشف الأيام حقيقته اليوم أو غدا.
وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمعاوية لما اتخذ لنفسه بعض مظاهر الملك المعروفة عند الفرس والروم وهو يحكم الشام متعللا بأن هيبة السلطان هي التي فرضت هذا: "إن كان ما قلتَ حقا إنه لرأي أديب، وإن كان باطلا إنها لخدعة أريب"، وفرق ما بين الأمرين كبير لا شك.
المصدر:الجزيرة نت