المختصر / يبدو أن الصحافة الفرنسية كانت مُحقة في تكهناتها عندما شككت في دواعي الحملة العسكرية التي أقدم عليها الرئيس فرانسوا هولاند في جمهورية إفريقيا الوسطى، فرغم مرور أزيد من شهرين على التدخل الفرنسي إلا أن العنف الطائفي يُواصل حصد ضحايا جُدد، خصوصا في العاصمة بانغي ومدينة بيربرتي ومدينة إنديلي في الشمال حيث تتمركز الأقلية المسلمة في البلاد، والتي تشكل حوالي 20 بالمائة من مجموع عدد السكان البالغ عددهم نحو خمسة ملايين نسمة.
وحسب المعطيات الواردة من هناك فإن عدد القتلى ارتفع منذ دخول القوات الفرنسية إلى أزيد من 2000 بينما الجرحى بالآلاف والمشردين والنازحين بمئات الآلاف، وتشير أرقام المنظمات الإغاثية التابعة للأمم المتحدة إلى أن أعمال العنف التي تشنها ميليشيات "مناهضوا بالاكا" المسيحية ضد مسلمي إفريقيا الوسطى تسببت في نزوح أكثر من 200 ألف شخص خلال شهر كانون الثاني – يناير الماضي ليصبح إجمالي عدد المشردين حوالي المليون.
وإذا كانت فرنسا قد بررت إرسال جنودها العسكريين إلى جمهورية إفريقية الوسطى لبسط الأمن وضمان الاستقرار، فإن الواقع يشير بعكس ذلك تماما، فمنذ أن وطأت الدبابات الفرنسية البلاد ازدادت الأوضاع الأمنية تفاقما وتصاعد مسلسل إزهاق أرواح المواطنين بينما تتجه الأوضاع السياسية نحو مزيد من التعقيد، فهل كانت الصحافة الفرنسية مُحقة حينما اتهمت الحُكومة الفرنسية بمحاولة استعادة إمبراطوريتها القديمة في القارة السمراء وأن الغزو الفرنسي لم يكن المقصود منه الدواعي الإنسانية وإنما الأطماع الاستعمارية في ثروات هذا البلد الفقير.
بسط الأمن وحفظ السلام.. شماعة لمؤامرة مفضوحة
ادعت فرنسا أنها ستسهر على حفظ الأمن والسلام في البلاد وذلك بنزع السلاح للمتمردين من الطرفين المتقاتلين، غير أنه سرعان ما سيتبين أن تلك الشعارات لم تكن سوى وعود وردية تستبطن مؤامرة محبوكة ضحيتها السكان المسلمون، فقد عمدت القوات الفرنسية إلى نزع السلاح والعتاد من مقاتلي حركة السيليكا وهي تحالُف أربع جماعات معظمها من المسلمين كانت تُساند الرئيس «ميشال جوتوديا»، بينما لم تقم بنفس الإجراء مع الميليشيات المسيحية المسلحة.
وتأتي شهادات المنظمات الإغاثية الدولية لتؤكد حقيقة المؤامرة بعد أن كشفت منظمة الأمم المتحدة، مُنتصف شهر يناير كانون الثاني 2014، في تقارير لها نشرتها صحيفة "لاكروا" الفرنسية، أن عملية نزع السلاح التي نفذتها القوات الفرنسية في جمهورية أفريقيا الوسطى، لمحاولة الحد من موجة العنف في البلاد، أدت إلى أن أصبحت مجموعات من السكان الذين يدينون بالإسلام هدفا سهلا لميليشيات معادية تدين بالمسيحية.
كما أفاد مراقبون من مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في تقرير لهم نقلته الصحف السويسرية، أنهم وثقوا جرائم قتل هذه تمت بعد أن سلم عناصر «سيليكا» السابقين أسلحتهم، إلا أن نفس التقرير يشير إلى أن تسليم السلاح ساهم في الحيلولة دون وقوع أعمال عنف تجاه مدنيين مسيحيين وميليشيات «مناهضوا -بالاكا».
الانقلاب على أول رئيس مسلم
رغم أن ميشال جوتوديا، أول رئيس مُسلم في تاريخ جُمهورية إفريقيا الوسطى، انتخبه المجلس الانتقالي في الجمهورية في شهر أبريل من العام 2013، بشكل ديمقراطي لتولي المُهمة لمدة عام ونصف في أفق إجراء الانتخابات، خلفا للرئيس المسيحي بوزيزيه الذي عانت معه البلاد الويلات مما دفع الشعب بشتى أطيافه ومكوناته الثورة عليه، إلا أن فرنسا كان عينها منذ بداية تدخلها على الرئيس المُسلم وسعت بكل ما في وسعها للانقلاب عليه.
وفي العاشر من يناير كانون الثاني من العام الحالي، سيجدُ ميشال جوتوديا نَفْسَهُ مُرْغَما على تقديم استقالته إلى جانب رئيس وزرائه "نيكولا تيانغاي"، بعد ضغط من قادة دول وسط أفريقيا الموالين لفرنسا خلال قمة إ نجامينا بالعاصمة التشادية، وفي 23 من يناير كانون الثاني، وتحت رعاية القوات العسكرية الفرنسية وبتزكية الدول الإفريقية المُجاورة اختار المجلس الانتقالي في جمهورية إفريقيا الوسطى، المسيحية كاثرين سامبا رئيسة بلدية العاصمة بانجي، لمنصب رئاسة الجُمهورية.
وبهذا الإجراء تكون فرنسا ومعها الدول الغربية قد أنهت حُكم أول رئيس مسلم لإفريقية الوسطى عبر انقلاب سياسي مكشوف، وأعادت حكم المسيحيين النصارى الذين تعاقبوا على منصب رئاسة الجمهورية منذ استقلالها عن فرنسا في ستينات القرن الماضي.
تداعيات التدخل الفرنسي على مجتمع إفريقيا الوسطى
لا شك أن التدخل الفرنسي الأخير ستزيد من تعقيد الوضع أكثر في هذا البلد الإفريقي المتعدد الأعراق، وستنسف كل جهود الهدنة والتعايش التي رسختها الحكومة المُنقلب عليها بزعامة الرئيس المسلم "ميشال جوتوديا"، وحسب الباحث في الدراسات القانونية والإفريقية بتشاد، محمد البشير أحمد موسى، أنها ستضرب عرض الحائط ببنود مؤتمر المصالحة الوطنية الدي عُقد في العاصمة الغابونية ليبروفيل، مطلع العام 2013 والذي تمخض عنه اختيار رئيس الوزراء من المُعارضة الديمقراطية المدنية، وتشكيل الحكومة تضم جميع أطياف المجتمع الإفريقوسطي، وهو ما تمخض عنه انتخاب الزعيم "ميشال جوتوديا" رئيسا للفترة الانتقالية.
كما أن التدخل الفرنسي الأخير يُهدد بعد اعتماد البنود المتفق عليها في مؤتمر ليبروفيل، والتي نصت على إيلاء دين الإسلام مكانة حقيقية بين الأديان المعترف بها في الدولة، وأن يُحتفل رسمياً بعيدي الأضحى والفطر، ويُدرجان ضمن أعياد الدولة الرسمية، وعدم التعرض أو اضطهاد المسلمين، وخصوصاً فيما يتعلق بالأوراق الثبوتية التي لم تكن متاحة إلى بعد مرورها على أحد القساوسة وجهاز الاستخبارات.
وبالعودة إلى حصيلة التدخل الفرنسي في إفريقيا الوسطى فإن أخطار الانقسام والحرب الطائفية تهدد تماسك أبناء المجتمع الأفروقوسطي، وتنذر بمستقبل مُخيف بالنسبة للسكان المسلمين خاصة بعد التواطئ المفضوح للجنود الفرنسيين مع المليشيات المسيحية في محاولة لإنهاء الوجود الإسلامي.
حقائق خفية حول التدخل الفرنسي
يرى الباحث في الشأن السياسي الإفريقي محمد البشير أحمد موسى، أن التدخل الفرنسي الأخير في إفريقيا الوسطى يرجع إلى انزعاج الدوائر الغربية من المُكتسبات التي حصل عليها المسلمون المشاركون في الثورة التي أطاحت بالرئيس الدكتاتوري "فرانسوا بوزيزيه" وجنوده المرتزقة، وأيضا لقطع الطريق على السكان المسلمين الذين أصروا على إدراج مطالبهم الأساسية من الحريات والحقوق الأساسية ضمن بنود اتفاقية مؤتمر المصالحة بليبروفيل.
وكشف محمد البشير أحمد موسى، أن الدوائر الغربية انزعجت بشكل أكثر من التمكين الذي حظي به المسلمون في عهد الحكومة السابقة قبل الانقلاب عليها والتي كانت تضم 14 منصب وزاري للمسلمين، ذلك أن الموارد المالية لم تعد محصورة على الوزراء الذين ينتمون للمذاهب النصرانية حيث كانوا يستغلون تلك الإمكانيات علاوة على مناصبهم السامية في الدولة لبناء الكنائس والمعاهد اللاهوتية، وهو ما يؤكد حضور البعد العقدي في التدخل العسكري الفرنسي الأخير في مستعمرتها السابقة جمهورية إفريقيا الوسطى.
المصدر: البيان