عنب بلدي- العدد الخامس والثمانون _تحنيط الإنسانية ...
من مذكرات معتقل بيلسان عمر استيقظنا في أحد الأيام لنجدهم قد أحضروا لنا 56 معتقلًا، لنصبح قرابة المئة وخمسين في مكان واحد، لتغدو الحياة جحيمًا، فسحب الدخان اللعين متطايرة في كل أرجاء المهجع الذي استحال قبرًا معتمًا، توزع الجدد في كل بقعة من أرض المهجع، ولم يعد هناك مساحة حتى للمشي بحريّة، فالتلوث موجود في مهجعنا بكل أنواعه، أخفّه التلوث بالضجيج والدخان، وأنواع أخرى من التلوث أشد إيلامًا يتراكم كل يوم أثرها في النفس، وكذا اختلفت يومها مع صديقي وائل الذي غالبًا ما كنت أشبّهه بالتي وصفها الله في كتابه بأنها نقضت غزلها، وانفصلت عن مجموعتنا التي نأكل فيها مع خالد وعبد الرحمن. أحيانًا أجد أنني من أولئك الذين يحملون مبادئ نظرية سامية، ولكن تصرفاتهم عكس ما يحملون من أخلاق، ومع ذلك أعتقد أنني أختلف عنهم –ولا أزكي نفسي على الله أحدًا- إذ أنني أعتذر كلما أخطأت، ولا أماري ولا أجادل، وأعمل جاهدًا على مراجعة نفسي بشكل دائم، انطلاقًا من النفس اللوّامة، وصولًا إلى النفس المطمئنّة، ساعيًا لامتلاك مكابح ذاتية تمنعني من الانزلاق نحو الخطأ قبل وقوعه وليس بعده. كنت وأنا في زنزانتي أخشى على روح الثورة في داخلي أن تخمد، أقصد الثورة على نفسي وأخطائها، وكذا الثورة على المخطئين بحق الناس من حولي، فغالبًا في مثل هذه الأجواء يسعى الظالمون-أو ربما القساة إن صح التعبير-، لتحنيط الإنسانية لدى الآخرين، إذ يرون وقوفي وأمثالي بوجههم تقليلًا من شأنهم أمام الآخرين المستضعفين –الساكتين عن الخطأ والظلم والفساد الاجتماعي وحتى الإنساني- لذلك تكثر المشادّات بيني وبينهم، بعضهم لديه الذكاء ليحتويني بموقف ما بكلمة أو مديح محاولًا رشوتي لأصمت، وآخر يأبى عنفوانه أن يقف أحد بوجهه، ونكاد ننسى أننا في سجن، والأبواب موصدة علينا، إذ يكفي سجاننا راحة أنه تركنا نحنّط إنسانية بعضنا، وذهب هو ليكمل حياته، وباله مطمئن أن أحدًا منا لن يذكره بسوء، فهو القاضي الذي نحتكم إليه لحل مشكلات تنشأ بيننا نتيجة علاقات قائمة على المصالح والمصالح فقط. كنت ألجأ أحيانًا إلى عدم الاحتكاك مع الطرفين، إذ الاشتراك معهم بتفاصيل حياتية كثيرة يعرّضنا لأن نجامل –نكولك بالعاميّة-، وأن نداهن بابتسامات صفراوية لا تخفي عدم الرضا، لتتراكم هذه الابتسامات، وتورث في القلب كرهًا يتفجر عند أول فرصة تتيح لهذا التراكم أن يخرج، والمؤسف أن هذا التفريغ وإن كان بوجه حق قد يخرج بصورة سلبية، ليضعنا وإن كنا بموقف حق إلى جانب المخطئ المسيء، وخاصة إن لم ننتبه لتصرفاتنا أثناء الغضب. بقيت في زنزانتي ما يقارب السنة والنصف، وأنا أحاول ألا أكون عونًا لأحد في تحنيط إنسانية آخر، وكل يوم كنت أتأكد من نفسي هل ما زلت على قيد إنسانيتي، أم اعتراني التحنيط أنا الآخر. http://enab-baladi.com/archives/12769
by: جريدة عنب بلدي enab baladi
من مذكرات معتقل بيلسان عمر استيقظنا في أحد الأيام لنجدهم قد أحضروا لنا 56 معتقلًا، لنصبح قرابة المئة وخمسين في مكان واحد، لتغدو الحياة جحيمًا، فسحب الدخان اللعين متطايرة في كل أرجاء المهجع الذي استحال قبرًا معتمًا، توزع الجدد في كل بقعة من أرض المهجع، ولم يعد هناك مساحة حتى للمشي بحريّة، فالتلوث موجود في مهجعنا بكل أنواعه، أخفّه التلوث بالضجيج والدخان، وأنواع أخرى من التلوث أشد إيلامًا يتراكم كل يوم أثرها في النفس، وكذا اختلفت يومها مع صديقي وائل الذي غالبًا ما كنت أشبّهه بالتي وصفها الله في كتابه بأنها نقضت غزلها، وانفصلت عن مجموعتنا التي نأكل فيها مع خالد وعبد الرحمن. أحيانًا أجد أنني من أولئك الذين يحملون مبادئ نظرية سامية، ولكن تصرفاتهم عكس ما يحملون من أخلاق، ومع ذلك أعتقد أنني أختلف عنهم –ولا أزكي نفسي على الله أحدًا- إذ أنني أعتذر كلما أخطأت، ولا أماري ولا أجادل، وأعمل جاهدًا على مراجعة نفسي بشكل دائم، انطلاقًا من النفس اللوّامة، وصولًا إلى النفس المطمئنّة، ساعيًا لامتلاك مكابح ذاتية تمنعني من الانزلاق نحو الخطأ قبل وقوعه وليس بعده. كنت وأنا في زنزانتي أخشى على روح الثورة في داخلي أن تخمد، أقصد الثورة على نفسي وأخطائها، وكذا الثورة على المخطئين بحق الناس من حولي، فغالبًا في مثل هذه الأجواء يسعى الظالمون-أو ربما القساة إن صح التعبير-، لتحنيط الإنسانية لدى الآخرين، إذ يرون وقوفي وأمثالي بوجههم تقليلًا من شأنهم أمام الآخرين المستضعفين –الساكتين عن الخطأ والظلم والفساد الاجتماعي وحتى الإنساني- لذلك تكثر المشادّات بيني وبينهم، بعضهم لديه الذكاء ليحتويني بموقف ما بكلمة أو مديح محاولًا رشوتي لأصمت، وآخر يأبى عنفوانه أن يقف أحد بوجهه، ونكاد ننسى أننا في سجن، والأبواب موصدة علينا، إذ يكفي سجاننا راحة أنه تركنا نحنّط إنسانية بعضنا، وذهب هو ليكمل حياته، وباله مطمئن أن أحدًا منا لن يذكره بسوء، فهو القاضي الذي نحتكم إليه لحل مشكلات تنشأ بيننا نتيجة علاقات قائمة على المصالح والمصالح فقط. كنت ألجأ أحيانًا إلى عدم الاحتكاك مع الطرفين، إذ الاشتراك معهم بتفاصيل حياتية كثيرة يعرّضنا لأن نجامل –نكولك بالعاميّة-، وأن نداهن بابتسامات صفراوية لا تخفي عدم الرضا، لتتراكم هذه الابتسامات، وتورث في القلب كرهًا يتفجر عند أول فرصة تتيح لهذا التراكم أن يخرج، والمؤسف أن هذا التفريغ وإن كان بوجه حق قد يخرج بصورة سلبية، ليضعنا وإن كنا بموقف حق إلى جانب المخطئ المسيء، وخاصة إن لم ننتبه لتصرفاتنا أثناء الغضب. بقيت في زنزانتي ما يقارب السنة والنصف، وأنا أحاول ألا أكون عونًا لأحد في تحنيط إنسانية آخر، وكل يوم كنت أتأكد من نفسي هل ما زلت على قيد إنسانيتي، أم اعتراني التحنيط أنا الآخر. http://enab-baladi.com/archives/12769
by: جريدة عنب بلدي enab baladi