الضربة الأميركية

ما الهدف؟ ومَن المستهدَف؟

مجاهد ديرانية

بدأت الولايات المتحدة على عجل بتكوين “تحالف دولي” لتوجيه ضربة للنظام السوري خارج إطار مجلس الأمن، وهي الطريقة التي يتحرك بها الأميركيون كلما أرادوا الانفراد بعمل عدواني خارج الأرض الأميركية.
قد يقول قائل: لكن ضرب النظام السوري المجرم وإسقاطه ليس عملاً عدوانياً، فلماذا وصفتَه كذلك؟ الجواب: لأن الأميركيين لا يريدون “ضرب النظام وإسقاطه” فعلاً، بل إنهم يسعون إلى هدف آخر. وهو ليس هدفاً خفياً يحتاج إلى قراءة فنجان لمعرفته، فإنهم ما يزالون يتحدثون عنه منذ عام ونيّف، هم والروس أيضاً، فليس غريباً إذن أن تصمت روسيا اليوم صمتَ أصحاب القبور ويبقى صراخ المذبوح حكراً على النظام السوري، وعلى إيران وحلفاء إيران في لبنان.

ما هو ذلك الهدف الذي ستستعين الولايات المتحدة بالقوة لتحقيقه؟
لقد اتفق القطبان -ومعهما الأتباع جميعاً من عرب وعجم- على الحل السياسي التوافقي للمشكلة السورية، حل ينهي الثورة بلا انتصار، ويقتصر على سقوط الرموز المحترقة (الأسد وكبار القادة الأمنيين والعسكريين) وبقاء كتلة النظام الرئيسية، الكتلة التي تمثل ما صار يُسمّى في الأدبيات السياسية مؤخراً “الدولة العميقة”، لكي تنضم إلى قُوىً سياسية سورية معارضة مدجّنة محدودة الصلاحيات، وينشأ من اتحادهما “النظام السوري الجديد” الذي سيرث النظام القديم ظاهرياً، ولكنه سوف يحتفظ -في الحقيقة- بجزء قوي كبير من أصله القديم.
في سوريا -كما في مصر واليمن وتونس وغيرها من بلدان العالم العربي- تكونت “الدولة العميقة” عبر عقود طويلة على عين القُوى الغربية ورعايتها لخدمة مصالحها وتحقيق أهدافها، وهي لن تتخلى عنها بسهولة، بل ستقاتل دونها إلى النّفَس الأخير. إنهم لا يريدون تكرار التجربة المصرية في سوريا، فإنها مغامرة غير مضمونة النتائج، فلماذا يسمحون بولادة دولة مدنية مستقلة تهدم الدولة العميقة، ثم يُضطرون إلى الانقلاب عليها؟ الطريق الأسهل هو الحيلولة دون ولادتها منذ البداية.

الضربة آتية، نعم، ولكنها لن تُسقط النظام؛ إنها آتية لفتح الطريق إلى المفاوضات النهائية لتشكيل “النظام السوري الجديد” الذي يريدون.

هذا الحل تعترضه عقبتان كبيرتان، عقبة من طرف النظام وعقبة من طرف الثورة. العقبة الأولى هي بشار الأسد والقيادة الأمنية والعسكرية العليا التي تقود الحرب ضد الشعب السوري منذ سبعة وعشرين شهراً، فإن هذه المجموعة قد حرّقت السفن وهدّمت الجسور، وصارت معركتها ليس فقط على الحكم والسلطة بل أيضاً على الحياة، على البقاء، ولذلك فإنها أعاقت بثبات كل الحلول السياسية المقترَحة منذ أواخر عام 2011 إلى اليوم، وستثابر على إعاقتها مستقبلاً، ومن ثم اتفقت أطراف اللعبة الدولية على التضحية بها وإزالتها من الطريق.

ليست الولايات المتحدة فقط هي التي قررت التخلص من الأسد ودائرة النظام العليا، بل روسيا أيضاً كما يبدو، فقد تطابقت رؤية الطرفين وزالت آخر العوائق منذ لقاء موسكو الأخير الذي جمع وزير الخارجية الأميركية بالرئيس الروسي. في ذلك الاجتماع وُضعت اللمسات الأخيرة، وليس مستبعَداً أبداً أن يكون الدور الذي أُسند إلى روسيا هو “توريط” بشار بالسلاح الكيماوي، فإن من غير المعقول بَداهةً أن يُتّخَذ قرارٌ بهذا الحجم إلا بعد استشارة الروس وموافقتهم. إذا صحّ هذا التوقع ستكون روسيا قد كررت اليوم في سوريا الخدعة الأميركية التي دفعت العراقَ إلى اجتياح الكويت قبل ثلاث وعشرين سنة، وكانت بداية النهاية لنظام صدام حسين.

* * *
إذن فإن الضربة الأميركية ستزيل العقبة الأولى من الطريق الذي يقود إلى المفاوضات والحل السياسي. وماذا عن العقبة الثانية؟ إنها القوة الثورية العسكرية الكبيرة التي نمت وتضخمت خلال العامين الماضيين.

لقد أنفقت جيوشٌ من عملاء المخابرات الغربية والعربية شهوراً طويلة في دراسة الواقع الميداني على الأرض السورية، ولا بد أن الصورة صارت عندهم أوضح مما هي عند كثير من السوريين أنفسهم. إنهم يدركون أن عشرات الآلاف من المسلحين الذين يتوزعون على مئات الكتائب الصغيرة لا يشكلون خطراً كبيراً بسبب تفرق تلك الكتائب، كما أن عدداً منها هو أصلاً من جماعات أمراء الحرب الذين يبحثون عن المال والنفوذ، ويمكن شراؤهم بأي من الاثنين أو بهما معاً.

المشكلة الكبرى والعقبة الكَؤود هي الجماعات الجهادية التي يبلغ عدد مقاتليها قريباً من سبعين ألفاً، وقد يصل إلى مئة ألف، وهي أكثر ترابطاً وأشد بأساً وأعظم إخلاصاً وأبعد عن إمكانية الشراء والاحتواء. إن وجود تلك الجماعات يشكل اليوم عقبة تعترض الحل السياسي الدولي، وهي في الغد صداع دائم للقوى الدولية (الولايات المتحدة وروسيا وسائر دول الغرب، ومعها بعض دول الجوار) التي ترى فيها خزّاناً بشرياً مقلقاً للجهاديين الذين يمكن أن يتسرّبوا خارج الحدود السورية فيهددوا أي دولة في أي وقت من الأوقات.

ما الحل؟ كما قرروا التخلص من الأسد فإنهم قرروا التخلص من تلك الجماعات، إلاّ يفعلوا فلن تُحَلّ المشكلة السورية حلاً سياسياً أبداً ولن تنجح مؤامرة “النظام البديل”.

* * *

هل سينجو الأسد من الضربة؟ ليست هذه مشكلتنا، لا بد أنه يعيش ساعات صعبة هو والإيرانيون وحلفاؤهم اللبنانيون، وقد تكون هي ساعاته الأخيرة في الحياة أو لا تكون. مهما يكن مصيره الذي ستحدده الأيام القليلة القادمة فإنه ليس بذي بال بالنسبة لمستقبل سوريا، ذلك أن خروجه من المعادلة حتمي وقريب في كل الأحوال، فخيرٌ لثوار سوريا أن يتجاوزوه ويفكروا في مصير سوريا في ضوء المخططات الدولية التي بات كثير منها مكشوفاً مفضوحاً لا يحتاج إدراكه إلى عبقرية خاصة وقدرة استثنائية على الاستبصار.

إن معركة الأميركيين وحلفائهم مع الأسد ستكون معركة قصيرة يمكن أن تنتهي وتصل إلى غايتها بضربات محدودة من الجو والبحر، أما معركتهم مع الفصائل الجهادية فإنها طويلة مفتوحة، ويغلب أن لا يتحقق من أهدافها إلا أقل القليل خلال تلك الضربات الخاطفة، ومن ثم فإنهم سيكملونها بأسلوبين على الأقل: بواسطة العملاء الذين دُسّ كثير منهم في الجسم العسكري الثوري خلال السنة الماضية، وبواسطة الدرونات (طيارات بلا طيّار) التي أنشؤوا لها قاعدتين قريبتين، واحدة في قاعدة أنجرليك قرب أضنة في الجنوب التركي، والثانية في مطار ماركا العسكري شرق العاصمة الأردنية عمّان (مع ملاحظة أن ما تسرب عن الدرونات الأميركية في أنجرليك يشير إلى أنها ما تزال حتى الآن غير مسلحة وتُستعمَل لأغراض تجسّسية بحتة).

لا ريب أن الأميركيين قد جمعوا معلومات كثيرة خلال السنة المنصرمة، وهم يعرفون أسماء ومواقع أكثر القادة العسكريين ويعرفون أهمية وخطورة كل منهم، ولا بد أنهم يعرفون أيضاً الكثير عن القُوى العسكرية الثورية: مراكز القيادة ومستودعات السلاح ومعسكرات التدريب. هل يحتاج أي مبتدئ في الحرب والسياسة أي مساعدة ليدرك أن أولئك الأشخاص وتلك المواقع ستكون أهدافاً محتمَلة (إن لم تكن أهدفاً مؤكدة) للضربات الأميركية المتوقعة في الأيام القادمة، ثم في الحرب المفتوحة التي يمكن أن تعقب تلك الضربات؟ ما العمل؟

* * *

إن سلامة الجماعات المقاتلة الكبرى ضرورية لضمان حرية واستقلال سوريا، فهذه الجماعات لم تعد ملكاً لأنفسها بل هي ملك للشعب السوري كله، وعليها أن تسعى للحفاظ على قوتها وسلامتها بكل الوسائل والتدابير حتى لا يضيع مستقبل سوريا كما حصل في العراق بعد سقوط نظام صدام. في العراق كان الجلبي والعلاوي والمالكي جاهزين، وسرعان ما خطفوا العراق وقدموه للأعداء على طبق من ذهب فلم ينجح أهله في استرجاعه إلى اليوم. ما أدرانا كم من الجلبيين والعلاويين والمالكيين يوجد في سوريا اليوم؟ لقد كنا مشغولين في عامَين انصرما بصناعة النصر في ميدان المعركة، وكان أعداؤنا مشغولين بصناعة البدائل في دهاليز السياسة والمؤامرات.

على القادة تغيير أماكنهم والتحرك الدائم والتوقف الفوري عن استخدام أجهزة الاتصال التقليدية، وعلى الكتائب والجماعات المقاتلة أن تفرّغ مستودعات السلاح وتنقله إلى أماكن جديدة، والأفضل أن تفرّقه في مستودعات كثيرة صغيرة ولا تكدسه في مستودعات مركزية، وعليها أيضاً أن تفرق عناصرها في مجموعات صغيرة متناثرة وتمنع التجمعات الكبيرة، ويحسن إغلاق معسكرات التدريب حتى إشعار آخر… على أن تكون تلك التحركات بعيدة عن العيون وضمن أكبر قدر من السرية والكتمان (وهما ممّا لا يجيده السوريون أبداً، حتى إنني أعزو كثيراً من المآسي والخسائر التي أصابت الثورة سابقاً إلى ضعف الحس الأمني وعدم فقه قاعدة “استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان”).

قد لا تكون الخطوات السابقة كلها ضرورية، ولكن الاحتياط واجب، وقاعدة النجاة في الحروب هي: “تفاءلْ بالأفضل ولكن خطّطْ للأسوأ”.


* * *
على أن ذلك كله لا يمكن أن يقضي على الجماعات الجهادية القوية الضخمة، إنه يمكن أن يوهن قوتها فحسب، أما المعركة الحقيقية فلا بد أن تكون صِداماً برّياً واسعاً على الأرض السورية، وهنا يأتي دور “الصحوات” بكل أنواعها وألوانها، من جيش وطني مزعوم إلى عصابات أمراء الحرب، إلى غيرها من الجماعات المسلحة التي ترتبط بقوى خارجية، فتمنحها الولاء وتأخذ منها السلاح والتمويل.

هذا الاحتمال (وهو كبير) يقودنا إلى موضوع خطير يحتاج إلى مقالة مستقلة لبحثه: احتمالات الصراع في سوريا بعد سقوط الأسد.


الضربة الأميركية ما الهدف؟ ومَن المستهدَف؟  مجاهد ديرانية 946375_1409342009284373_341526464_n