شبكة #شام الإخبارية - قصة شهيد
الشهيد الطفل" مصطفى سعيد الجركس"
في مواسم البطولة والصبر، في زمان القتل والقبح، زمن الثورة السورية؛ قد تتصل بك" الجهات المختصة" لتقول: تعالوا استلموا جثة الأخ أو الابن أو الزوج أو الجد ..الذي مات تحت التعذيب( هذا ما نكتشفه لاحقا) وفي أحيان أخرى كثيرة لا يكلفون أنفسهم، ربما يجبُنون، ربما هي فوضى حيث لا مسؤولية ولا مساءلة.. ولا قيمة لأحزان الأمهات، ولا دهشة الأطفال.
مصطفى سعيد الجركس، من حي الجبيلة في دير الزور، كان، وبقي، في الثانية عشرة من العمر، حين اختطف في العشرين من كانون الثاني 2012، وبعد شهرين تقريباً عثر على جثمانه النحيل في عمارة مهجورة.. وقد انتشرت عليه آثار تعذيب همجي..
اكتشف الناس جثة مصطفى والثورة على وشك أن تحتفل بعيد مولدها الأول.. حول برك الدم.. وبين قبور الشهداء، وأكوام الحجر..وبحناجرَ ما زالت تهتف: الشعب يريد إسقاط النظام، وع الجنة رايحين شهداء بالملايين...
لماذا اختُطف مصطفى؟ لماذا عُذّب؟ الجواب بسيط جدا: قاد مصطفى مظاهرات رفاقه في الصف والمدرسة، هتف فيها ضد النظام، طلب الحرية، فهم ما يجري حوله بين الكبار ففعل ما يفعلون، لأنه صبي ذو رجولة مبكرة، ولعل الثورة هي من كبّره، وعلمه.. ولعله صِدقُ الأهل مع ثورتهم، إذ لم يحُدّوا من حماسه واندفاعه..
لا تجد لمصطفى الحي، الذي سماه رفاقه أبا جعفر لشجاعته، سوى صورتين كأنهما في اليوم نفسه، والمكان نفسه، صورته يحمل أخاه الصغير، يبتسم نصف ابتسامة، تتألق عيناه بالحياة والمرح، وفي الغرفة نفسها، التي توحي بحياة مكتفية دون تأنق ولا رفاهية؛ وبالملابس نفسها، تجد صورته الأشهر: جالساً على كنبة، مسنداً مرفقه الأيمن إلى وسادتين، تاركاً يده اليسرى بين ساقيه المتباعدتين، في جلسته تحفُّزُ رجل، وفي نظرته تمتزج البراءة بالعزيمة..
لم يحرص الأهل كثيرا على نشر صور لمصطفى، ربما لأنهم ممن لا يحبون عرض جراحاتهم أكثر، ربما لأنهم لم يعتنوا بتصويره لأسباب مادية، رغم أنه ولد في أوج ثورة الصورة الرقمية، وقد غدا التصوير نشاطاً سهلاً سريعا..
لم أجد صورة أو تسجيلاً له في المظاهرات المدرسية التي قادها،لم أجد وداعاً من أم أو أب يلين لرؤيته الصخر، ولا جنازة حزينة..ولا دفناً في السر ولا في العلن... كثيراً ما يكون المخلصون الطيبون أقل اعتناء بظهور عملهم، أو مصابهم، إلا إن قيض الله لهم من يهتم بهم.
إلا أن الأحد التالي( 11/ 3/ 2012) خُصص لأبي جعفر البطل الصغير، فخرج أهل حيِّه( الجبيلة) في مظاهرة ليلية تعبر عن وفائهم له: حملوا صورته حياً وشهيدا معذباً، رفعوا أعلام الثورة، غنَّوا ودبكوا تحت جنح الليل وقد تشابكت أذرعتهم الشابة: اللي بيقتل شعبه خاين.. كانوا لايزالون يظنون أنهم( شعبه) لا يريدون أن يصدقوا أنه مازال يراهم عبيده!!
وفي هذه المظاهرات، يتخفف الناس من أحزانهم بالحركة والغناء والهتاف.. بتأمل بصيص المستقبل الذي ترسمه المشاعل في الأيدي، يستغنون بذلك كله عن المزيد من البكاء..ربما.
ويبقى التسجيل الأشهر والأهم هو الفيديو الذي يصور جثمان مصطفى البطل، شبه العاري..
يبدأ الفيديو من قدميه إلى ساقيه النحيليتن، إلى منطقة الحوض التي سترت بقطعة قماش زرقاء، إلى صدره، حيث لا بد أن تتوقف الكاميرا مرغمة، إلى ذراعيه النحيلتين أيضا، يذكرك كثيرا بالشهيد الطفل تامر الشرعي، الذي كان يكبره بثلاث سنوات.. لكن الفارق لم يشفع للطفل مصطفى.
وفي كل إعادة للشريط الذي نزل على الشبكة بتاريخ 6 آذار 2012 تكتشف ألواناً أخرى، وآثاراً أخرى للتعذيب.. ينطبق جفناك في بعض اللحظات بصورة عفوية، ثم تفتحهما لتجد أنه ثمة لون فضي يلتمع قرب العنق وحوله.. ثمة بقع تشبه العلق المنتفخ على الصدر.. الأسنان العليا ناتئة..ثمة مساحات حمراء وأخرى بيضاء على الفخذ، على الصدر .. ثمة سحجات على العضد الأيسر..ماذا فعلوا بعينك؟ ماذا فعلوا بك أيها البطل.. ماذا فعلت بك هذه المخلوقات التي تمشي على قدمين، لكنها تستطيع أن ترى فيك عدواً يستحق كل ما أفرزته أمراضها من وحشية وقسوة ..فتوقع بك من التعذيب مالا يعلمه إلا الله..وتوقع بك- ربما بعد موتك- من التمثيل مالا يضرك ولا يؤلمك..
شُلَّت أيديهم..شُلَّت أيديهم
لا أحد يعرف ما ذا حدث بين الاعتقال والظهور، إلا الله..
لا أحد يعرف ماحلَّ بقلب الأب والأم إلا الله..
كُتب في مشهد مصطفى كلام جميل حزين، غير قليل بالنسبة لمدة بقائه على الأرض، كلام خوطب به أبواه...لعن به النظام..عسى أن يخفف ويبرد القلوب..
الحرية قادمة يا أبا جعفر الصغير..قادمة..وستصلك أخبارنا وستفرح بها من أجلنا، لأنك لا تطمعُ بالمزيد، فروحك الطيبة تمرح في مرابع الجنة ومراتعها، حيث تُخَصُّ الطفولة بأكثر مما يحلم به أبوان لولدهما بكثير... كثير جدا..
فاطمة صالح – من كتاب سرة مئة قمر سوري – منشورات تيار العدالة الوطني 2013
الشهيد الطفل" مصطفى سعيد الجركس"
في مواسم البطولة والصبر، في زمان القتل والقبح، زمن الثورة السورية؛ قد تتصل بك" الجهات المختصة" لتقول: تعالوا استلموا جثة الأخ أو الابن أو الزوج أو الجد ..الذي مات تحت التعذيب( هذا ما نكتشفه لاحقا) وفي أحيان أخرى كثيرة لا يكلفون أنفسهم، ربما يجبُنون، ربما هي فوضى حيث لا مسؤولية ولا مساءلة.. ولا قيمة لأحزان الأمهات، ولا دهشة الأطفال.
مصطفى سعيد الجركس، من حي الجبيلة في دير الزور، كان، وبقي، في الثانية عشرة من العمر، حين اختطف في العشرين من كانون الثاني 2012، وبعد شهرين تقريباً عثر على جثمانه النحيل في عمارة مهجورة.. وقد انتشرت عليه آثار تعذيب همجي..
اكتشف الناس جثة مصطفى والثورة على وشك أن تحتفل بعيد مولدها الأول.. حول برك الدم.. وبين قبور الشهداء، وأكوام الحجر..وبحناجرَ ما زالت تهتف: الشعب يريد إسقاط النظام، وع الجنة رايحين شهداء بالملايين...
لماذا اختُطف مصطفى؟ لماذا عُذّب؟ الجواب بسيط جدا: قاد مصطفى مظاهرات رفاقه في الصف والمدرسة، هتف فيها ضد النظام، طلب الحرية، فهم ما يجري حوله بين الكبار ففعل ما يفعلون، لأنه صبي ذو رجولة مبكرة، ولعل الثورة هي من كبّره، وعلمه.. ولعله صِدقُ الأهل مع ثورتهم، إذ لم يحُدّوا من حماسه واندفاعه..
لا تجد لمصطفى الحي، الذي سماه رفاقه أبا جعفر لشجاعته، سوى صورتين كأنهما في اليوم نفسه، والمكان نفسه، صورته يحمل أخاه الصغير، يبتسم نصف ابتسامة، تتألق عيناه بالحياة والمرح، وفي الغرفة نفسها، التي توحي بحياة مكتفية دون تأنق ولا رفاهية؛ وبالملابس نفسها، تجد صورته الأشهر: جالساً على كنبة، مسنداً مرفقه الأيمن إلى وسادتين، تاركاً يده اليسرى بين ساقيه المتباعدتين، في جلسته تحفُّزُ رجل، وفي نظرته تمتزج البراءة بالعزيمة..
لم يحرص الأهل كثيرا على نشر صور لمصطفى، ربما لأنهم ممن لا يحبون عرض جراحاتهم أكثر، ربما لأنهم لم يعتنوا بتصويره لأسباب مادية، رغم أنه ولد في أوج ثورة الصورة الرقمية، وقد غدا التصوير نشاطاً سهلاً سريعا..
لم أجد صورة أو تسجيلاً له في المظاهرات المدرسية التي قادها،لم أجد وداعاً من أم أو أب يلين لرؤيته الصخر، ولا جنازة حزينة..ولا دفناً في السر ولا في العلن... كثيراً ما يكون المخلصون الطيبون أقل اعتناء بظهور عملهم، أو مصابهم، إلا إن قيض الله لهم من يهتم بهم.
إلا أن الأحد التالي( 11/ 3/ 2012) خُصص لأبي جعفر البطل الصغير، فخرج أهل حيِّه( الجبيلة) في مظاهرة ليلية تعبر عن وفائهم له: حملوا صورته حياً وشهيدا معذباً، رفعوا أعلام الثورة، غنَّوا ودبكوا تحت جنح الليل وقد تشابكت أذرعتهم الشابة: اللي بيقتل شعبه خاين.. كانوا لايزالون يظنون أنهم( شعبه) لا يريدون أن يصدقوا أنه مازال يراهم عبيده!!
وفي هذه المظاهرات، يتخفف الناس من أحزانهم بالحركة والغناء والهتاف.. بتأمل بصيص المستقبل الذي ترسمه المشاعل في الأيدي، يستغنون بذلك كله عن المزيد من البكاء..ربما.
ويبقى التسجيل الأشهر والأهم هو الفيديو الذي يصور جثمان مصطفى البطل، شبه العاري..
يبدأ الفيديو من قدميه إلى ساقيه النحيليتن، إلى منطقة الحوض التي سترت بقطعة قماش زرقاء، إلى صدره، حيث لا بد أن تتوقف الكاميرا مرغمة، إلى ذراعيه النحيلتين أيضا، يذكرك كثيرا بالشهيد الطفل تامر الشرعي، الذي كان يكبره بثلاث سنوات.. لكن الفارق لم يشفع للطفل مصطفى.
وفي كل إعادة للشريط الذي نزل على الشبكة بتاريخ 6 آذار 2012 تكتشف ألواناً أخرى، وآثاراً أخرى للتعذيب.. ينطبق جفناك في بعض اللحظات بصورة عفوية، ثم تفتحهما لتجد أنه ثمة لون فضي يلتمع قرب العنق وحوله.. ثمة بقع تشبه العلق المنتفخ على الصدر.. الأسنان العليا ناتئة..ثمة مساحات حمراء وأخرى بيضاء على الفخذ، على الصدر .. ثمة سحجات على العضد الأيسر..ماذا فعلوا بعينك؟ ماذا فعلوا بك أيها البطل.. ماذا فعلت بك هذه المخلوقات التي تمشي على قدمين، لكنها تستطيع أن ترى فيك عدواً يستحق كل ما أفرزته أمراضها من وحشية وقسوة ..فتوقع بك من التعذيب مالا يعلمه إلا الله..وتوقع بك- ربما بعد موتك- من التمثيل مالا يضرك ولا يؤلمك..
شُلَّت أيديهم..شُلَّت أيديهم
لا أحد يعرف ما ذا حدث بين الاعتقال والظهور، إلا الله..
لا أحد يعرف ماحلَّ بقلب الأب والأم إلا الله..
كُتب في مشهد مصطفى كلام جميل حزين، غير قليل بالنسبة لمدة بقائه على الأرض، كلام خوطب به أبواه...لعن به النظام..عسى أن يخفف ويبرد القلوب..
الحرية قادمة يا أبا جعفر الصغير..قادمة..وستصلك أخبارنا وستفرح بها من أجلنا، لأنك لا تطمعُ بالمزيد، فروحك الطيبة تمرح في مرابع الجنة ومراتعها، حيث تُخَصُّ الطفولة بأكثر مما يحلم به أبوان لولدهما بكثير... كثير جدا..
فاطمة صالح – من كتاب سرة مئة قمر سوري – منشورات تيار العدالة الوطني 2013