كلما قلتُ متى موعدُنا ضحكت هندٌ وقالت بعد غد.

قد يعبّر هذا البيت من الشعر العربي عن حال الثورة السورية مع معارضتها
السياسية. فرغم المحاولات المختلفة للقيام بالدور المطلوب من قِبلها، لا
تبدو هذه المعارضة حتى الآن في وارد القدرة على تحقيق ذلك الهدف، ولو في
حدّه الأدنى.


لا نتحدث هنا عن «نيّةٍ» طيبة أو حرقةٍ صادقة لا يعدَم وجودُها في أوساط
المعارضة هنا وهناك، وإنما عن ممارسةٍ عملية يمكن أن تُثبت عكس ما نتحدث
عنه على أرض الواقع. فالأمنيات شيء والنتائج شيءٌ آخر.


نعم، هناك عوائق تحول دون ذلك، منها ما هو ذاتي ومنها ما هو خارجي، لكن
النتيجة تبقى واحدةً في نهاية المطاف. وهذا واقعٌ، وإن كان صعباً ومُحبطاً
في بعض الأحيان، لكنه لا يعني افتقاد المعارضة، وتحديداً الائتلاف الوطني،
لأوراق يمكن استخدامها لاستعادة المبادرة، ولو بشكلٍ تدريجي.


من هنا، تأتي المسؤولية الكبرى الملقاة على عاتق نفرٍ من المخلصين مع
حلول الذكرى الثانية لانطلاق الثورة هذه الأيام. خاصةً مع تصاعد الحديث عن
تشكيل حكومةٍ مؤقتة يمكن أن يُصبح إيجادُها مفرق طريق في مسيرة المعارضة،
ونقلةً إيجابية في أدائها وعملها في مختلف المجالات.


أول ما يجب أن يراه الناس في هذا الإطار هو الجدّية الكاملة في التعامل
مع هذا المشروع. إذ لا مجال، مع حساسية الظرف الراهن، للدخول فيه كمن يقدّم
رجلاً ويؤخر أخرى. ثمة حاجةٌ لدرجةٍ عالية من الحسم النفسي والفكري
والعملي لابد من امتلاكها لتأمين ظروف النجاح ومقدماته. وظهورُ مشاعر
التردد والحيرة سيكون مدعاةً لانتشار روحٍ سلبية تصبح بدورها المسمار الأول
في نعش الحكومة، وربما إجهاضها قبل الولادة.


علينا أن نستحضر في هذا المقام أن وجود مثل هذه الحكومة أصبح مطلباً
شعبياً واسعاً يكاد يكون محطّ إجماع. وهي قبل هذا وبعده استجابةٌ طبيعية
لحاجاتٍ واستحقاقاتٍ ملحّةٍ لم يعد ممكناً تأجيلُ التعامل معها.


على سبيل المثال، أصبحت المناطق المحررة واسعةً إلى حد كبير، وفي وجود
مجالس وهيئاتٍ محلية يزيد عددها باستمرار، فإن الحاجة باتت ملحة لتجنب
الفوضى التي يمكن أن تنشأ عن تضارب الأنظمة وقواعد العمل السائدة فيها على
تنوع مناطقها وخلفياتها. وبدلاً من هذا، يجري توحيد وتعزيز مثل تلك الجهود
في قالب حكومي يؤسس لسوريا المستقبل، ويجنب البلاد وجود فراغ سياسي في حال
سقوط النظام بشكل مفاجئ.


وسيكون تشكيل الحكومة المؤقتة عاملاً هاماً في قدرة الثورة على مقاومة
ضغوطٍ قد تحاول خلق أمرٍ واقع يتمثل في تشكيل حكومة تُفرض من الخارج، كما
حصل سابقاً في أفغانستان والعراق. إذ لم يعد خفياً أن هناك «أفكاراً» يجري
تداولها في بعض الأوساط الدولية بهذا الخصوص.


ولا تخفى في هذا الإطار الحاجة إلى عملية تنظيم كبرى للعمل العسكري من
جانب، وللتنسيق الكامل بينه وبين المسار السياسي من جانبٍ آخر. ورغم جهود
الائتلاف في هذا المجال فإن وجود الحكومة يمكن أن يدفع باتجاه تحقيق الهدف
من خلال تعيين وزير دفاعٍ مدني بالتنسيق مع قيادة الأركان. وفوق أهمية
الموضوع بذاته، فإن لهذا الإخراج رمزية كبرى تتعلق بالعلاقة بين الساسة
والمدنيين في سوريا المستقبل ستصل رسائلها للمعنيين داخل سوريا وفي النظام
الدولي. هناك بعدٌ آخر يتمثل في بذل كل جهدٍ ممكن لتأمين احتياجات
المواطنين في المناطق المحررة. وهذه لا تقف عن المأكل والمشرب والمأوى على
أهميتها، وإنما تمتد إلى تنظيم عمليات الصحة والتعليم والإدارة المدنية بكل
مستوياتها، وإدارة الموارد الطبيعية، والحفاظ على سلامة وأداء أجهزة
الدولة المدنية. ويأتي في هذا الإطار تنظيم وتنسيق جهود الإغاثة والمساعدة
للشعب السوري في الداخل والخارج.


ثمة نقطةٌ لابدّ من إشاعة الحديث فيها بصراحة وشفافية. فالتوقعات
العالية من الحكومة المؤقتة يمكن أن تكون غير واقعية، خاصة في البدايات.
وهذا يقتضي أولاً مساهمة جميع الأطراف في التعامل مع الموضوع بواقعيةٍ
وتدرج. كما أنه -وهذا هو الأهم- يتطلب إشاعة دورٍ أساسي للحكومة المؤقتة
يجب التركيز عليه والتعريف به بين المواطنين.


فالهدف الاستراتيجي الأول والأكبر من وجود الحكومة يتمثل في تسريع عملية
إسقاط النظام من خلال دعم العمل العسكري بشكلٍ فعال، ثم عبر مسارات العمل
السياسي والدبلوماسي الدولية التي ستعمل على إزالة المشروعية الكاملة عن
النظام في مؤسسات النظام الدولي والإقليمي، والاستحواذ تدريجياً على مواقع
ومقاعد هذا النظام في تلك الساحات. بحيث نخلق أمراً واقعاً يتمثل في كون
الحكومة هي الحاضر الوحيد باسم الشعب السوري في المحافل الدولية، بالتنسيق
الكامل وتوزيع الأدوار مع الائتلاف. ويعرفُ من يعرف تقاليد عمل النظام
الدولي وقوانينه، أن هذه ستكون ضربة معلم تُشكل نوعاً من الأمر الواقع الذي
يُلغي كل إمكانات الالتفاف على الثورة من جانب، ويدفع الجهات ذات العلاقة
إلى حسم موضوع دعمها للثورة وممثليها، إما قناعةً، أو تحت ضغط ذلك الأمر
الواقع.


كثيرةٌ هي المكاسب الأخرى من تشكيل الحكومة، فوجودها سكون جاذباً
مؤسسياً يدفع باتجاه المزيد من الانشقاقات السياسية عن النظام واستثمارها
في بناء الشرعية البديلة عن النظام الساقط. كما أنه سيزيد قدرة الثورة على
طرح بدائل ذات مصداقية للأقليات والفئات الصامتة التي لا تزال تدعم النظام
أو تلك التي لا تزال مترددة في مواقفها. وأخيراً وليس آخراً، فإن من مهمات
الحكومة المؤقتة الحساسة وضع بذور المشاريع التي ستكون نواة مخطط إعمار
سوريا وبنائها من جديد. بدءاً من إطلاق حملة مصالحة وطنية تبدأ العمل
مباشرة في المناطق المحررة بدل الانتظار حتى بعد سقوط النظام. مروراً
بالعمل على إحصاء ميداني في تلك المناطق بشكل منظم، وعن طريق جسم حكومي
مسؤول، بدل أن يكون دخول المنظمات الدولية في تلك المناطق عشوائياً وغير
مدروس التبعات والنتائج. وانتهاءً بتعبئة المساعدات الدولية وتنسيق مشاريع
إعادة الأعمار وإيجاد السكن المؤقت لعدد كبير من النازحين في المناطق
المحررة.


ولا داعي للتذكير أن تشكيل الحكومة جاء من البداية في صلب رؤية تشكيل
الائتلاف الوطني، وأن تحقيقه واجبٌ أخلاقي وسياسي يؤكد وفاء الالتزام
بكلمته أمام الثورة.


باختصار، ثمة فرصةٌ كبيرة أخرى يوفرها تشكيل الحكومة. لكنها لا يمكن أن
تحقق كمونها الكبير إلا بوجود إرادةٍ سياسية تضع المصالح الوطنية فوق كل
اعتبار، وتتجاوز مهازل المحاصصات الحزبية والأيولوجية والعرقية بشكلها
الحادّ والمعيق، وتركز على خلفية تكنوقراطية لأفرادها يمتلكون الأهلية،
ويكونون قادرين على أدائه بعيداً عن العصي التي يضعها البعض من الآن،
وسيتابعون وضعها في عجلات الحكومة، خوفاً على ضياع أدوارٍ موهومة، أو
انسجاماً مع طريقة تقليدية في عمل المعارضة لم يعد البعض يرى شيئاً خارج
إطارها المحصور والضيق.


وهذه كلها دون شكّ مهمة صادقين مخلصين عاملين يتصدون لها بكل تجردٍ
وعزيمةٍ وتخطيط ومثابرة، رغم كل التحديات والمناورات الداخلية والخارجية.
ثمة رمزية هائلة في أول حكومة سورية حرة تظهر بعد عقود من التهميش
والتزوير. ولا مفرّ من ارتقاء شرائح أكثر وعياً من الشعب السوري للارتفاع
إلى مستوى تلك المسؤولية.