ميشيل كيلو
في المرة الأولى، وكان ذلك عام 1967، أعلن النظام السوري عن تعبئة 600 ألف مقاتل من العمال والفلاحين ومعلمي المدارس والموظفين لحماية سوريا من العدو الصهيوني، ولدحر قواته مهما كانت قدراتها، بينما كانت إذاعاته تتعهد بتحرير فلسطين خلال أيام قليلة، وكان معلقوه يدعون المواطنين إلى قضاء بقية الصيف في نهاريا، البلدة الجليلية الجميلة. حين وقعت الحرب، تبين أن الرقم لم يكن غير وهم دعائي، وأن «الجيش العقائدي»، الذي تعهد بتحرير فلسطين، لم يكن جيشا بأي معيار، بل ولم يكن يرقى حتى إلى مستوى تنظيمات الكشافة، بل كان كتلة كبيرة من بشر لا رابط بينهم تخضع لرقابة جهاز أمني متشعب يتغلغل في كل مسامها، تصلح لكل شيء إلا لخوض الحروب، ناهيك بكسبها.
ليس بين السوريين من يعرف إلى اليوم وقائع تلك الحرب، وليس بينهم من يعلم تفاصيل تسليم الجولان إلى إسرائيل، رغم أنهم على ثقة تامة من أنه سلم تسليما، كما تقول طرفة انتشرت في ذلك الزمن تحكي أن جولانيا ذهب إلى قريته وعاد ببعض حاجاته من بيته، فمنعته الشرطة العسكرية من إحضارها إلى داخل سوريا، وأفهمته أن النظام باع الجولان مفروشا ولم يبعِه فارغا، وأن ما فعله يسيء إلى قيادة الجيش عامة وحافظ الأسد بصورة خاصة.
بمقارنة ما جرى في تلك الحرب، التي كان النظام يعلن من تلفازه وإذاعته أنها ستكون حرب تحرير فلسطين، مع ما يجري اليوم خلال حربه ضد الشعب، نصطدم بمفارقة مذهلة، هي أن النظام لم يحشد فقط 600 ألف بندقية ومدفع ضد مواطنيه، بل عبأ طاقات كل تابع له في طول سوريا وعرضها، وفعل ذلك بطريقة تثير الدهشة من حيث دقة تنظيمها، وشمولها، والمهام التي أوكلها إلى داعميه، وطرق توزيع هؤلاء جغرافيا ووظيفيا، وحجم انتشارهم في كل شبر من الأرض السورية، ونوع الأسلحة والذخائر التي وضعها بالفعل بين أيديهم، وتكفل بإيصالها إليهم أينما كانوا على أرض سوريا، والتكامل الذي أقامه بينهم، والخطط التي رسمها لهم، بل وأنماط السلوك التي علمهم القيام بها ضد من يخرجون على طاعة السلطة.
ومن يتأمل خارطة مدينة دمشق، سيرى مدينة مقسمة بدقة كومبيوترية مذهلة، تقطعها مئات الحواجز الثابتة وتتحرك فيها عشرات الحواجز الطيارة، بعناصر تتجول فيها ليل نهار سيرا على الأقدام أو بالسيارات، وتقوم بتفتيش المارة والتحرش بهم، وباقتحام البيوت، واعتقال الآمنين والاعتداء عليهم، بينما يبقى لديها ما يكفي من وقت لاختطافهم وترويعهم وأخذ الخوات منهم، فضلا عن إطلاق النار عليهم واغتصاب نسائهم وبناتهم وأمهاتهم، وأخيرا إطلاق النار بفوارق زمنية مدروسة في أحيائهم وعلى بيوتهم، أو عليهم مباشرة إن صادف وكانت لديهم الجرأة على الخروج منها.
لم يكن هناك جيش لصد الصهاينة عن سوريا في جميع حروبهم ضدها. ولم تكن هناك أية تعبئة وطنية أو شعبية ضد الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة، بل وجدت على العكس من ذلك مظاهر غريبة، منها أن الخبز كان يتوفر بكثرة خلال الحرب ولا يتوفر إلا بصعوبة خلال السلم، ومثله السلع الحيوية الأخرى، بينما تقنن الدول عادة المواد الغذائية خلال الحروب تحسبا لطول أمدها، وكي لا يجوع الشعب ويفقد قدرته على القتال والصمود. أما اليوم فهناك جيوش تنتشر على كل شبر من الأرض السورية، تنفذ مهام متكاملة تشكل في مجموعها خطة حرب عسكرية فائقة التفصيل والدقة، غرضها منع المواطنين من النزول إلى الشوارع، واعتقالهم وتعذيبهم وقتلهم إن هم نجحوا في الوصول إليها، وإلا فتدمير مدنهم وبلداتهم وقراهم ومحوها عن وجه الأرض، وإبادتهم فرادى وجماعات، إذا ما أصروا على مواصلة احتجاجاتهم وثورتهم.
ألا تستدعي هذه الوقائع الفاقعة مقارنة تعامل النظام مع «عدوه» بتعامله مع من يعتبر شعبه؟ ألا تفرض استخلاصا لا مفر منه هو أن عدو النظام الوحيد كان في حقيقة الأمر شعبه، داخله الوطني، وليس من درج على إيهامنا بأنه «العدو» الذي يحتل أرضه ويهدد عاصمته، ويزعم منذ 45 عاما أنه يعد العدة لطرده من الجولان المحتل؟ في مقياس الأفعال: لم يكن للنظام أي عدو خلال نصف القرن الماضي غير مواطنيه، ولم يصرف أي جهد يستحق الذكر ضد أي عدو غيرهم، ومن يتابع تاريخه يجده حافلا بعمليات فائقة التنظيم استهدفت قمع الشعب في الأوقات العادية وسحقه في حالات التذمر أو التمرد أو المطالبة بأي شيء، بينما أوكل مهمة تحرير أرض الجولان إلى إذاعته وتلفازه وصحافته، التي حررته ألف مرة كلاميا، واكتفت من المعارك ضد المحتل بالكذب والدجل، بينما تخلى هو عما يفترض أنه واجبه الوطني تجاه أرضه وشعبه ودولته، ولم يتوقف عن ترداد جملة سخيفة تقول: إن تحديد زمان ومكان المعركة لم يأتِ بعد، رغم مرور قرابة نصف قرن على احتلال الجولان، في دليل إضافي على ما يعتقده السوري العادي حول وجود تعهد غير معلن قدمه النظام يمنعه من القيام بأية معركة تكون بأية خطوة لاسترداد أرض سوريا المحتلة، أو للتخلي عن دوره في حماية أمن إسرائيل، التي تعتبر ضامن حكمه وحاميه الرئيس.
أخيرا، هل يجوز بأي معيار وطني أو إنساني تجاهل المقارنة بين حجم الضرر المريع الذي ألحقه النظام بشعب سوريا خلال فترات متعاقبة تفصل بينها سنوات قليلة نسبيا، والخراب الذي سببه للدول العربية المجاورة وخصوصا منها فلسطين ولبنان، وبين إحجامه المستمر عن استخدام ولو جزء يسير من أسلحته ضد صهاينة لطالما قال كاذبا إنهم عدوه الوحيد وبرر بعدائه لهم كل ما فعله ضد شعبه، الذي اتهمه بصفاقة ما بعدها صفاقة بالعمالة لهم؟ وهل يمكن أن يكون هناك بعد الآن ذرة شك في معنى قيامه بقتل شعبه تحت أعين ضباط وجنود الاحتلال المرابطين على أرض الجولان السوري المحتل، الذين يستمتعون بمنظر مواطني سوريا وهم يخرون صرعى برصاص كان يجب أن يوجه بالأحرى إلى صدورهم؟