الحرية التي نضحي من أجلها :
بقلم : أبو ياسر السوري
الحريةُ في الإسلام تعادلُ الحياةَ ، وفقدُها يعادِلُ الموتَ ، لقوله صلى الله عليه وسلم : لا يَجزِي وَلَدٌ والدَهُ إلا أنْ يَجدَه مملوكاً فيعتقَهُ .
ومن هذا الحديث النبوي الشريف ، نعلم أنَّ للأب حقاً كبيراً على ولده ، لأنه كان سبباً في مجيئه إلى الحياة . ولا يمكنُ لولد أن يجازي أباه جزاءً مكافئا لهذه النعمة إلا أن يجد أباه رقيقا ، فيشتريه ويعتقه ، وعندها يكون الجزاء متكافئا بين الابن وأبيه .
وهذا يعني أن الرق مكافئ للموت ، لأنه يغتال الحياة البشرية ويلغيها ، وأن التحرير من الرق مكافئ للعودة إلى الحياة . وأن الإنسان بدون الحرية كأنه ميت يمشي على رجليه ، وهذا صورة من صور الحياة غير الكريمة ، التي ابتدعتها الأنظمةُ العربية المستبدة ، وأجبرتْ عليها شعوبها ، حتى أضجر ذلك بعض الشعراء من الحكام فقال :
نحنُ أسرَى ولو شَمَسْنَا على القَيْـ ـدِ لما نالنا العدوُّ المغيرُ
نحنُ موتى وشرُّ ما ابتدعَ الطُّغـ ـيانُ موتَى على الدُّروبِ تسيرُ
وإنني لأعجبُ أشدَّ العجب ممن يتهم الإسلام بالاستبداد ، وتكبيل الحريات ، ويزعم أن العقلية المعاصرة لم تَعُدْ تستسيغُ الضوابطَ الإسلامية ، ولا الأحكامَ الشرعية ، التي تَحُولُ بينَ المرء وبين حريته الشخصية ، وتكبِّلُها بقيود الحلال والحرام ... ويجوز ولا يجوز ...
ومثلُ هذا الاتِّهَام المُوجَّهِ إلى الإسلام ، ليس إلا منكراً من القول وزورا ، لأن الإسلام لا يُكبّلُ الحريات بل ينظمها ، ولا يقيدُها بقيود تعطلها ، وإنما يرسم لها طريقاً آمناً ، يُحدّدُ لكل فرد مساره في الحياة . لينطلق فيها دون أن يعطل حياة الآخرين .
تَصوَّرْ ، لو لم يكن هنالك قانونُ مرورٍ ، يضبطُ سيرَ المُشاة والسيارات ، كيف تكون حركةُ الناس في المدن الكبرى والصغرى ؟ وكم من الحوادث القاتلة يقع كلَّ يوم جراء الفوضى المرورية ؟ وكم تُصبحُ الحياةُ شاقةً في أحضان تلك الفوضى الخانقة ؟ وتَصوَّرْ ، لولم يكن هنالك ضوابط للطيران ، كم من حادثة جوية تقع كل يوم .؟ وتَصوَّرْ ، كيف تكون الحياة بدون هذه الترتيبات ، التي تُفْرَضُ بسببها بعضُ القيود التنظيميةِ المحتملة ، ولكنها تُعوِّضُ الناس في مقابل ذلك ، قدرا كبيرا من الراحة والسعادة والاستقرار ...
إذن ، ليس كلُّ قيدٍ شراً ، ولا كلُّ ضابطِ سُوءاً . فالحيوانات وحدها ، هي التي تنطلق في حيواتها بلا ضوابطَ ولا قيود ، لا لأنها تتمتَّعُ بحرية أكملَ من حرية الإنسان ، وإنما لأنها مخلوقاتٌ دون مستوى الإنسان في المرتبة والاستعدادات والملكات . فليس لديها المقدرة على الاستيعاب والقياس ، ولا تتمتع بمَلَكَةِ التفكير والتدبير . لذلك كان موطنُها الأصلي ، في البوادي والصحارى والغابات . ولمَّا تألفها الإنسانُ سلبها بعضَ حريتها ، وتكفَّلَ لها بالغذاء والماء والإيواء ، وسخرها بعد ذلك فيما يريد هو ، لا فيما تريد . وكان في ذلك خيراً لها وللإنسان معا .
فتقييدُ الحرية يا سادة ، إجراءٌ يناسبُ مدنية الإنسان ، ولا تأباه إلا وحوشُ الغاب والصحراء ، ولا ترفضُه إلا الحيتان في الماء . وكلما كان الإنسانُ ألصقَ بالمدنية فُرِضَتْ عليه القيودُ بشكل أكبر . لذلك يصطدم أبناء البادية بقيود المدنية ، ويصعبُ عليهم قبولها حين ترمي بهم الأقدار إلى الحياة في المدن ، وتصدمهم بضوابطها . وكثيرا ما يفرُّون منها راجعين إلى باديتهم الطليقة ، التي لا تفرضُ عليهم ما تفرضُه المدينة من قيود ، في اللباس والطعام والمنام والسير والجلوس ، واختيار المكانِ الذي يقيمُ فيه بَيتَهُ ، والحَوِيجَةَ التي يَسُوقُ إليها سرحه ..
نعم إن الحريةََ هي السِّمَةُ البارزةُ لإنسانيةِ الإنسان ، وهي الهِبَةُ الإلهية التي وُلدتْ مع البشر ، وليس لأحدٍ أنْ يَسلُبَهَا منهم ، كائناً من كان .. لذلك قال أمير المؤمنين عمرُ بن الخطاب ، لعمرو بن العاص في حادثة القبطي الشهيرة : يا عمرو متى استعبدتمُ الناسَ وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا .
لا شكَّ أنَّ هنالك مَنْ لا يُرضيه أنْ يعيش كإنسانٍ سَوِيٍّ ، وإنما يُفضل العيش على طريقة الحيوان ، منطلقاً من مَقُولةِ دارون : أنَّ أصل البشرية من القردة ، ثم تطورت القردة ، فكان منها البشرُ . ولا شكَّ أنَّ أصحاب هذه الرؤية يُحبُّون الحياةَ على طريقة القردة ، بلا لباس يواري سوآتهم ، ولا ضوابط تقيد تصرفاتهم . ولا بأس لديهم أن يتسافدوا تَسَافُدَ القردة ، وأن ينزوَ بعضُهم على بعضٍ في الحدائق وعلى أرصفة الشوارع والطرقات ... حتى إن رئيسَ وزراءٍ في إحدى الدول الغربية المرموقة ، خرج منذ أسابيع قليلة يدعو إلى استصدار قانون يجيز زواج المثلين ، ويسمح بأن يتزوج الرجل رجلا ، وتتزوج المرأة امرأة .. ولكن شعبه لم يسمح بتمرير مثل هذا القانون .
أما بعد :
فإن ثورتنا هي ثورة حرية وكرامة ، ونحن إذ نضحي من أجل الحرية ، بكل هذه الأرواح الذكية ، فإنما ننشد حرية تليقُ بإنسانية الإنسان . لا حريةً فوضوية على طريقة الحيوان .
بقلم : أبو ياسر السوري
الحريةُ في الإسلام تعادلُ الحياةَ ، وفقدُها يعادِلُ الموتَ ، لقوله صلى الله عليه وسلم : لا يَجزِي وَلَدٌ والدَهُ إلا أنْ يَجدَه مملوكاً فيعتقَهُ .
ومن هذا الحديث النبوي الشريف ، نعلم أنَّ للأب حقاً كبيراً على ولده ، لأنه كان سبباً في مجيئه إلى الحياة . ولا يمكنُ لولد أن يجازي أباه جزاءً مكافئا لهذه النعمة إلا أن يجد أباه رقيقا ، فيشتريه ويعتقه ، وعندها يكون الجزاء متكافئا بين الابن وأبيه .
وهذا يعني أن الرق مكافئ للموت ، لأنه يغتال الحياة البشرية ويلغيها ، وأن التحرير من الرق مكافئ للعودة إلى الحياة . وأن الإنسان بدون الحرية كأنه ميت يمشي على رجليه ، وهذا صورة من صور الحياة غير الكريمة ، التي ابتدعتها الأنظمةُ العربية المستبدة ، وأجبرتْ عليها شعوبها ، حتى أضجر ذلك بعض الشعراء من الحكام فقال :
نحنُ أسرَى ولو شَمَسْنَا على القَيْـ ـدِ لما نالنا العدوُّ المغيرُ
نحنُ موتى وشرُّ ما ابتدعَ الطُّغـ ـيانُ موتَى على الدُّروبِ تسيرُ
وإنني لأعجبُ أشدَّ العجب ممن يتهم الإسلام بالاستبداد ، وتكبيل الحريات ، ويزعم أن العقلية المعاصرة لم تَعُدْ تستسيغُ الضوابطَ الإسلامية ، ولا الأحكامَ الشرعية ، التي تَحُولُ بينَ المرء وبين حريته الشخصية ، وتكبِّلُها بقيود الحلال والحرام ... ويجوز ولا يجوز ...
ومثلُ هذا الاتِّهَام المُوجَّهِ إلى الإسلام ، ليس إلا منكراً من القول وزورا ، لأن الإسلام لا يُكبّلُ الحريات بل ينظمها ، ولا يقيدُها بقيود تعطلها ، وإنما يرسم لها طريقاً آمناً ، يُحدّدُ لكل فرد مساره في الحياة . لينطلق فيها دون أن يعطل حياة الآخرين .
تَصوَّرْ ، لو لم يكن هنالك قانونُ مرورٍ ، يضبطُ سيرَ المُشاة والسيارات ، كيف تكون حركةُ الناس في المدن الكبرى والصغرى ؟ وكم من الحوادث القاتلة يقع كلَّ يوم جراء الفوضى المرورية ؟ وكم تُصبحُ الحياةُ شاقةً في أحضان تلك الفوضى الخانقة ؟ وتَصوَّرْ ، لولم يكن هنالك ضوابط للطيران ، كم من حادثة جوية تقع كل يوم .؟ وتَصوَّرْ ، كيف تكون الحياة بدون هذه الترتيبات ، التي تُفْرَضُ بسببها بعضُ القيود التنظيميةِ المحتملة ، ولكنها تُعوِّضُ الناس في مقابل ذلك ، قدرا كبيرا من الراحة والسعادة والاستقرار ...
إذن ، ليس كلُّ قيدٍ شراً ، ولا كلُّ ضابطِ سُوءاً . فالحيوانات وحدها ، هي التي تنطلق في حيواتها بلا ضوابطَ ولا قيود ، لا لأنها تتمتَّعُ بحرية أكملَ من حرية الإنسان ، وإنما لأنها مخلوقاتٌ دون مستوى الإنسان في المرتبة والاستعدادات والملكات . فليس لديها المقدرة على الاستيعاب والقياس ، ولا تتمتع بمَلَكَةِ التفكير والتدبير . لذلك كان موطنُها الأصلي ، في البوادي والصحارى والغابات . ولمَّا تألفها الإنسانُ سلبها بعضَ حريتها ، وتكفَّلَ لها بالغذاء والماء والإيواء ، وسخرها بعد ذلك فيما يريد هو ، لا فيما تريد . وكان في ذلك خيراً لها وللإنسان معا .
فتقييدُ الحرية يا سادة ، إجراءٌ يناسبُ مدنية الإنسان ، ولا تأباه إلا وحوشُ الغاب والصحراء ، ولا ترفضُه إلا الحيتان في الماء . وكلما كان الإنسانُ ألصقَ بالمدنية فُرِضَتْ عليه القيودُ بشكل أكبر . لذلك يصطدم أبناء البادية بقيود المدنية ، ويصعبُ عليهم قبولها حين ترمي بهم الأقدار إلى الحياة في المدن ، وتصدمهم بضوابطها . وكثيرا ما يفرُّون منها راجعين إلى باديتهم الطليقة ، التي لا تفرضُ عليهم ما تفرضُه المدينة من قيود ، في اللباس والطعام والمنام والسير والجلوس ، واختيار المكانِ الذي يقيمُ فيه بَيتَهُ ، والحَوِيجَةَ التي يَسُوقُ إليها سرحه ..
نعم إن الحريةََ هي السِّمَةُ البارزةُ لإنسانيةِ الإنسان ، وهي الهِبَةُ الإلهية التي وُلدتْ مع البشر ، وليس لأحدٍ أنْ يَسلُبَهَا منهم ، كائناً من كان .. لذلك قال أمير المؤمنين عمرُ بن الخطاب ، لعمرو بن العاص في حادثة القبطي الشهيرة : يا عمرو متى استعبدتمُ الناسَ وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا .
لا شكَّ أنَّ هنالك مَنْ لا يُرضيه أنْ يعيش كإنسانٍ سَوِيٍّ ، وإنما يُفضل العيش على طريقة الحيوان ، منطلقاً من مَقُولةِ دارون : أنَّ أصل البشرية من القردة ، ثم تطورت القردة ، فكان منها البشرُ . ولا شكَّ أنَّ أصحاب هذه الرؤية يُحبُّون الحياةَ على طريقة القردة ، بلا لباس يواري سوآتهم ، ولا ضوابط تقيد تصرفاتهم . ولا بأس لديهم أن يتسافدوا تَسَافُدَ القردة ، وأن ينزوَ بعضُهم على بعضٍ في الحدائق وعلى أرصفة الشوارع والطرقات ... حتى إن رئيسَ وزراءٍ في إحدى الدول الغربية المرموقة ، خرج منذ أسابيع قليلة يدعو إلى استصدار قانون يجيز زواج المثلين ، ويسمح بأن يتزوج الرجل رجلا ، وتتزوج المرأة امرأة .. ولكن شعبه لم يسمح بتمرير مثل هذا القانون .
أما بعد :
فإن ثورتنا هي ثورة حرية وكرامة ، ونحن إذ نضحي من أجل الحرية ، بكل هذه الأرواح الذكية ، فإنما ننشد حرية تليقُ بإنسانية الإنسان . لا حريةً فوضوية على طريقة الحيوان .