26/4/2012
“الطائفة الكريمة”: خرافتان و 3 أخطار هائلة
مجاهد مأمون ديرانية
كلما قرأت عبارة “الطائفة الكريمة” ارتجف قلبي من الغضب، وكلما قرأت عبارة “الانتقام الأعمى” ارتجف قلبي من الذعر. ولأن وَجيب القلب لا يغني ولا يفيد إن لم يتبعه عمل، ولأن الإنكار بالقلب لا يكفي لمن يملك الإنكار باللسان، فقد أوجبتُ على نفسي وأوجبَت عليّ طائفة من كرام إخواني وأخواتي أن أكتب هذه المقالة.
سأناقش أولاً خرافتين كبيرتين، ثم أنتقل إلى جوهر المسألة وما ينبغي أن نعرفه وأن نَحْذر من الوقوع فيه، وهو ثلاثة أخطار هائلة، ثلاث كبائر كبيرات، منها ما يفسد دنيانا ومنها ما يفسد آخرتنا. فأما الخرافتان فأولاهما شراكة العلويين في الوطن والوحدةُ الوطنية بينهم وبين سائر مكوّنات الشعب السوري، والثانية هي خرافة “الطائفة الكريمة”. وأما الكبائر الكبيرات فتجدوا الحديث عنهنّ في النصف الثاني من المقالة، فمن شاء فليقفز إليه على الفور ويوفر على نفسه قراءة القسم الأول لأنه من المعلوم من فقه الثورة بالضرورة.
* * *
نحن والعلويون شركاء في الوطن؟ كيف؟ وعلى أي أساس؟ لا يمكن أن يصفنا بأننا شركاء في الوطن إلا مَن يصف السجّانين والسجناء بأنهم شركاء في السجن، أو الجزّارين والأغنام بأنهم شركاء في المسلخ، أو الثيران ومصارعي الثيران بأنهم شركاء في الحلبة. كيف يُمنَح وصف الشراكة لفريقين إذا كان أحدهما يبني والآخر يهدم؟ إذا كان أحدهما يُقتل والآخر يَقتل؟ إذا كان أحدهما يمد اليد بالسلام والآخر يقطعها ويرفض السلام؟
دعونا من كذبة شراكة العلويين في الوطن وتعالوا نسأل: ما هي شراكة العلويين في الثورة؟ هل ينبغي أن أخدعكم وأخدع نفسي وأنسج الحكايات والخرافات لأرضي دعاة الوحدة الوطنية المزعومين أم يجب أن أقول الحقيقة؟ الحقيقة التي أعرفها وتعرفونها جميعاً، فلماذا نتعامى عنها؟
إن العلويين بالجملة مع النظام، يشاركونه بالقتل والتشبيح والإجرام. لا يهمّني هل هم مخدوعون أو مهدَّدون أو خائفون من المستقبل، الذي يهمني هو أنهم كذلك. نعم، أعترف بأن في كل ألف منهم خمسة وعشرين من الشرفاء، كما أن في كل ألف من غيرهم خمسة وعشرين من السفلة الساقطين المجرمين، لكن هذا لا يغير الحكم العام لأن “الأبعاض” لا تُبنَى عليها المصائر والأحكام. إننا نضع الأشراف الأحرار من العلويين على رؤوسنا ونعترف بأنه لا فرق بيننا وبينهم في شرف الانتماء إلى الثورة، ولكن -مع تقديرنا لهم ولمواقفهم- تبقى الطائفة في جملتها محسوبة على النظام ومتحدة مع النظام وغارقة في الإجرام.
إني أقولها بوضوح: ليس العلويون -حالياً- جزءاً من المجتمع السوري ولا من الوطن السوري، إنهم طائفة كانت جزءاً من الوطن إلى أن أخرجت نفسها منه واستولت عليه، ومنذ ذلك اليوم إلى اليوم هي طائفة محتلّة، وقد كان يمكنها أن تصحّح موقفها مع بداية هذه الثورة ولكنها لم تفعل. لقد اختارت أن تكون جزءاً من نظام الاحتلال، لا بل اختارت أن تكون هي الدعامة والركيزة الأساسية لعصابة الاحتلال والإجرام.
ولو كان العلويون حقاً شركاء في الوطن والثورة -كما يزعم بعض الواهمين والمتحذلقين- فلماذا يتوجب علينا أن نرقص فرحاً ونطيّر الأخبار كلما انضم إلى الثورة علوي؟ تشرَّفْنا، في كل يوم ينضم إلى الثورة ألفٌ من الطوائف الأخرى ولا يحتفل أحد. فإما أننا سواء ولا طائفية فلا تُمِلّونا بمثل تلك الأخبار، أو أن العلويين ليسوا منا ولسنا منهم فنحتفل بانضمام أحدهم إلى الثورة كما يحتفل أهل الأرض بوصول كائن مرّيخي إلى الأرض!
* * *
إن من أسخف السخافات أن يُضطَر الضحية إلى تملّق الجلاد. الذين يقتلون السوريين أكثرهم علويون (قلت “أكثرهم” ولم أقل “جميعهم” لئلا أسمع رداً من المتحذلقين)، والذين يعذبون السوريين أكثرهم علويون، والذين يذبحون أبناءهم ويغتصبون نساءهم أكثرهم علويون، والذين يقودون عصابات الأمن والشبيحة وكتائب الجيش المعتدية أكثرهم علويون. كل ذلك يعلمه الضحايا، ثم يُطالَبون بأن يَبْلعوا المُرّ الذي يعلمون ولا يذكروا الطائفة العلوية إلا بخير، بل إنهم لا يجب أن يقرؤوا عن الطائفة العلوية أبداً إلا موصوفة بالكرم، فقد صار مما يهدد الوحدة الوطنية ويعرّض سلمية الثورة للخطر أن يكتب أحدهم “الطائفة العلوية” مجردة، إلا أن يقول: “الطائفة العلوية الكريمة”!
أي كريمة وأي كرامة ونحن نموت ونعذّب وتهدّم مدننا فوق رؤوسنا بأيديهم، وأي كريمة وأي كرامة وهم يصطفّون مع النظام ويمدون النظام بأسباب القوة والبقاء؟ كلما سمعت أو قرأت هذا التعبير (الطائفة الكريمة) تذكرت طائر العنقاء. هل تعرفون ما الصفة المشتركة بين الاثنين؟ كلاهما من المخلوقات الخرافية التي لا تعيش إلا في أخْيِلَة الشعراء وأحلام الحالمين. يعلم الله أني قد ضاق صدري بهذا التعبير، ولقد كرّهوا إليّ كلمة “الكريمة” حتى أوحى لي شيطان نثري (لو كان للنثر شيطان كشيطان الشعر المزعوم) أن أنزّه عنها قلمي فلا أخطها في قرطاس!
لا يا أيها العلويون، لستم أبداً طائفة كريمة، فليس كريماً من يقتل أبناء وطنه، وليس كريماً من يسكت عن أبناء طائفته وهم يقتلون إخوانهم في الوطن. ولا يَقُلْ لي أحد إن منهم مُنكرين للقتل معارضين للنظام، أفليست لأولئك المنكرين المعارضين ألسنة؟ ولا يقل لي أحد إن النظام يحاصر الشرفاء منهم وإنه يهددهم بأفظع المصائر لو تمردوا عليه أو اصطفوا مع الثوار. هل رأيتم أن أحرار سوريا لما عزموا على الثورة حملوا السماورات وعدة الشواء وخرجوا إلى ضفاف الأنهار يأكلون الكباب ويشربون الشاي الأخضر ويلعب أطفالهم على المروج الخضراء؟ أما علمتم أنهم حملوا أرواحهم على أكفهم وخرجوا إلى ساحات الحرية ليلاقوا كل بطش ونكال؟ أكلوا (هوا) لم يأكلوا كباباً وشربوا الموت الزؤام، أما أطفالهم فمنهم من فقد يده أو عينه ومنهم من فقد (العضو) من أعضائه أو عاد إلى أمه جسداً هامداً محمولاً على الأعناق.
لستم طائفة كريمة يا أيها العلويون. لو كنتم طائفة كريمة لثرتم مع الثائرين ولاعتُقل أحراركم مع أحرارنا ولمات أولادكم مع أولادنا وهُدمت بيوتكم مع بيوتنا، أمَا وأنتم القتلة أو الشركاء في القتل أو الشهداء الصامتون على الجريمة، فمن أين يأتيكم الكرم وأنّى تكونوا كرماء؟
* * *
إن في سوريا ثمانية عشر مليون مسلم سنّي، ما سمعت أحداً ذكرهم يوماً في هذه الثورة فوصفهم بالكرم، ولا وصف به المسيحيين ولا الدروز، ولا حتى الإسماعيليين مع أنهم أولى الطوائف بالتكريم لأن موقفهم من الثورة أشرف المواقف في الأقليات. لماذا فقط تحرصون على وصف الطائفة العلوية بالكرم من دون الجميع؟
يا أيها المتحذلقون: كفّوا عن تلك المجاملات الفارغة التي ثابرتم عليها سنة كاملة لم تُثمر مع “الطائفة الكريمة” أيّ ثمرة تُثبت كرمها، ما صنعَت سوى أنها كانت خناجر في صدور الضحايا الذين ذبحناهم مرتين، مرة حينما تخلينا عنهم حتى ذبحهم المجرمون، ومرة حينما بلغ بنا اللطف والضعف أن نتملق القاتل ونقبّل أياديه وأقدامه لكي نثبت له أو لأنفسنا أننا مسالمون لطفاء شركاء في الوطن.
أمَا وقد وصلتم إلى هذا الموضع من المقالة فسوف تقولون: ما جئتنا بجديد، كل هذا نعرفه أكثر مما تعرفه ونقوله أكثر مما تقوله، فلماذا كتبت المقالة من أساسها؟ حسناً، إني لم أضف جديداً فيما سبق، ولكني قصدت أن أجلو المسألة بأكثر صراحة ممكنة لأصل إلى جوهرها وإلى الغاية من طرحها، وهي غاية عملية لا نظرية، لو أننا أدركناها وعقلناها فسوف نوفّر على أنفسنا المعاناة الطويلة وننجو من أسوأ المصائر.
إنما أريد أن أحذّركم من ثلاثة أخطار هائلة، من ثلاث كبائر كبيرات: من مؤامرة لإبقاء العلويين حكاماً لسوريا، ومن فتنة طائفية عمياء، ومن انتقام عشوائي أثناء الثورة وبعد انتصارها.
* * *
إن المؤامرة التي تتعرض لها الثورة السورية اليوم نادرة في تواريخ المؤامرات، فلم يحصل في أي زمان أن تواطأ ذلك العدد الكبير من الدول والقوى على شعب من الشعوب كما يتواطؤون علينا: أميركا وأوربا وروسيا والصين وإيران وإسرائيل والجامعة العربية والغالبية العظمى من دول العرب، وأكثر المنظمات الدولية وجميع الأحزاب القومية واليسارية العربية، وحتى المعارضة العلمانية في الداخل السوري، اجتمعت كلها على شعب أعزل وثورة ضعيفة، فماذا يريدون؟ حمايةَ الأسد والمحافظةَ على حكمه إلى الأبد؟ أبداً، لقد قطعوا من الأسد ونظامه الأملَ ولا حاجة لهم به، إلا أنهم يحرصون على بقاء الطائفة، وهذا هو أعظم مقتل للثورة وأفظع نهاية لها.
هذه “المؤامرة الكبرى” تحدثتُ عنها من قبل وسوف أتحدث عنها من بعد، ولن أزال أتحدث عنها ما بقي خطرها موجوداً، وبسببها قررت أن أكون “طائفياً” في كتابتي -كما بدا للبعض- وأن أسمّي المسميات بأسمائها بلا مواربة ولا لف ولا دوران. إني أحذركم يا أهل الشام الكرام من مؤامرة تديرها أميركا من وراء الستار، أميركا العدو الأكبر والأول لثورتكم والصديق الأصدق والأوفى لعدوكم على مر السنين. مؤامرة تهدف إلى إبقاء العلويين في مراكز القوة في سوريا، في المراكز العليا في الحكم والسياسة والأمن والجيش. فإياكم، إياكم أن تقبلوا ولو استمرت الثورة ألف عام.
إياكم -أيها السوريون الأحرار- أن تسلموا رقبتكم للعلويين بعد اليوم، إياكم أن توافقوا على أن يحكم سوريا العلويون فإنهم قوم لا يوثَق بهم. إياكم أن تبقى السيطرة في سوريا للطائفة العلوية، لا يخدَعْكم أحد فيقنعكم أنها طائفة كريمة، إنها طائفة غادرة لا أمان لها. ويا من ستقولون عني طائفي: قولوا ما شئتم، تكفينا محنة نصف قرن تحت سلطانهم، فإن أكن طائفياً حرّاً كريماً خير لي من أن أكون مخلوقاً وديعاً مسالماً لاطائفياً لا تزيد قيمته على بهيمة من البهائم في مزرعة الأسد وورثة نظام الأسد.
* * *
الخطر الثاني الكبير الذي أريد التحذير منه هو خطر الحرب الطائفية، وقد فعلتُ من قبل فحذّرت، وأعيد اليوم التحذير. إنني أتشبث برفض الفتنة الطائفية وأعتبره أصلاً ثورياً. لا، ليس أصلاً ثورياً فقط، بل أصلاً إسلامياً وأخلاقياً وإنسانياً من أكبر الأصول.
ولن أخدع أحداً ولن أخدع نفسي فأتعامى عن الحقيقة. لقد بدأت الحرب الطائفية في سوريا، بدأها الطرف الآخر بالفعل، فماذا نصنع؟ الجواب: نتحاماها ما استطعنا ونحرص على عدم الانجرار إليها، دون أن نقدّم أولادنا وأنفسنا للذبح مستسلمين. كيف نجمع بين الاثنين؟ بتحديد الحدود الواضحة بين البريء والمعتدي وبين الدفاع والعدوان. إننا نعلم يقيناً أن الحرب التي يشنها النظام علينا هي حرب طائفية، ونعلم أن الطائفة العلوية في جملتها وأغلبيتها (وليس كلها بالتأكيد) هي جزء رئيسي من آلة القتل والعذاب التي تفتك بسوريا والسوريين ليل نهار، ومع ذلك علينا أن نَحْذر ونحذّر من خطة النظام لجرنا إلى صدام طائفي مفتوح وإلى انتقام عشوائي.
يجب أن نعرف أولاً الفرق بين الحرب الطائفية العمياء والحرب العادلة المبصرة، وهو يتبيّن من الفرق في موجبات القتل والقتال؛ في الأولى يسأل المقاتل أو يسأل القاتل: قل لي ما هو دينك أو ما هي طائفتك لأقرر هل أقاتلك وأقتلك أو أدعك وشأنك. في الثانية يسأل: قل لي ما هو عملك وما هي جريمتك؟
في الحرب الطائفية البغيضة الظالمة يكون موجب القتل هو الانتماء إلى دين من الأديان أو طائفة من الطوائف، وهذا الشكل المجنون من الحروب لا دين له ولا أخلاق، لأن الدين يمنع من قتل البريء الذي لم يقترف جرماً، والأخلاق تمنع العدوان والقتل بلا ذنب ولا محاكمة. والأكثر سوءاً هو أن المجرمين الحقيقيين ينالون فرصة كبيرة للنجاة، لأن الجموع والغوغاء ينشغل بعضها ببعض، ويصرف كل فريق منهم جهده وطاقته كلها أو جلها في تعقب الفريق الآخر وتقتيل أفراده، فيما يراقب المجرمون الكبار المشهد من بعيد غيرَ عابئين بموت من يموت ما داموا هم بمنجاة من الهَرْج والمَرْج والانتقام.
تجنبوا الفتنة الطائفية وإياكم أن تنجرّوا إليها ولكن إياكم أن تستسلموا للذبح. من اعتدى عليكم فردّوا عليه ومن ضربكم على صفحة الخد فاضربوه على صفحتَي الخدّين. من قاتلكم فقاتلوه واقتلوه، مهما تكن طائفته أو دينه أو عرقه. ردوا العدوان واضربوا مصدر النيران كلما أُطلقت عليكم النيران، فإن جاءكم القصف من معسكر من معسكرات الأعداء فردّوا بقصف المعسكر، وإن جاءكم من حي أو قرية من أحياء “الموالين” وقراهم فردّوا بقصف القرية أو الحي. أكرر حتى لا يفهمني أحدٌ خطأً وحتى لا يُنقَل عني ما لم أقله: من حقنا أن نرد على العدوان بمثله فقط، ولا يجوز أن نهاجم أي قرية علوية ما لم تهاجمنا، ولا يجوز أن نقصف أي حي علوي ما لم يقصفنا، فنحن لا نحارب العلويين ولا نحارب غير العلويين، إنما نحارب النظام المجرم الذي يحتل سوريا ونحارب من يقف معه، ونحارب من يحاربنا ويقصفنا ويجتاح مناطقنا، كائناً من يكون ومن أي طائفة يكون.
* * *
الخطر الثالث الكبير الذي أريد التحذير منه هو الانتقام الأعمى والقتل العشوائي.
لقد بلغ الضيق والأسى بآلاف الضحايا أنهم ما عادوا يميزون بين المذنب والبريء ما دام الاثنان ينتميان إلى الطائفة ذاتها، وقد امتلأت القلوب بغيظ لا يشفيه إلا انتقام عشوائي من الجميع. في الشهور الأولى من عمر الثورة لم يكن المرء ليعثر على الكثير من الدعوات الهوجاء إلى الانتقام، أما الآن فإننا نجدها في كل مكان. الدعوات إلى القتل العشوائي والانتقام الجماعي لم تعد نادرة اليوم بل صار لها جمهور كبير، وهذا الأمر يفزعني غاية الفزع.
صار من الشائع في الفضاء الثوري -بما فيه من منتديات ومواقع وصفحات- أن يتحدث المتحمسون عن قتل العلويين لأنهم علويون، وهم يسوّغون قتل أطفالهم ونسائهم بحجة أنهم قتلوا نساءنا وأطفالنا، ويستدلون على ذلك الرأي بقوانين العقل والدين. فهل هذا هو فعلاً رأي العقل ورأي الدين؟
يا أيها المسلمون: ماذا تفعلون بقوله تعالى: {ولا تَزِرُ وازرةٌ وِزْرَ أخرى}؟ أيّ وزر يحمله أخو القاتل حتى يُقتَل بجريمة أخيه؟ أي وزر تحمله زوجة القاتل حتى تُقتَل بجريمة زوجها؟ لقد أباح لنا الدين أن نقتص عيناً بعين وسنّاً بسنّ، فإذا قلع المعتدي عيني فجزاؤه قلع عينه وإذا خلع سِنّي فجزاؤه خلع سنّه، صحيح، ولكن هل جزاؤه قلع عين أخيه أو خلع أسنان بنيه؟
الله تبارك وتعالى حدّ لعباده المؤمنين حدود الانتقام في هذه الآية: {فمَن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم }، فجعل محلّ رد الاعتداء محصوراً بالمعتدي نفسه (فاعتدوا عليه)، والأخ والزوجة والولد ليسوا من نفسه. هذا هو جوهر المسألة: إن الاعتداء بالمثل هو على المعتدي نفسه وليس على غيره، لا يُفهم من الآية معنى غيرُ هذا، وما كان لمؤمن أن يخالف أمر الله وأن يعتدي ظلماً على بريء، وما كان لمؤمن أن يُجيّر الجريمة لغير صاحبها ولا أن يقتل بريئاً بمذنب، ولو كان ابنَ القاتل أو أخاه أو أباه. وقد صرح الإمام القرطبي بذلك في تفسيره العظيم فقال في قوله تعالى {فمن اعتدى عليكم}: “من ظلمك فخذ حقك منه بقدر مظلمتك، لا تتعدّ إلى أبويه ولا إلى ابنه أو قريبه” (الجامع لأحكام القرآن 2/360). كتبت هذا المعنى في مقالة سابقة فأرسل لي أخ كريم مؤيّداً، ونقل إجماع العلماء على تحريم قتل المجاهدين لنساء وصبيان المحاربين ما لم يقاتلوا، قال جزاه الله خيراً: “حكى هذا الإجماعَ ابنُ حزم في مراتب الإجماع (ص201) والنووي في شرح صحيح مسلم (12/48) وابن حجر في فتح الباري (6/147)، وغيرهم”.
يا أيها المؤمنون: إن الدين يمنع القتل العشوائي والانتقام الأعمى فيقول: {لا تزر وازرة وزر أخرى}، والدين والعقل يعصمان دمَ البريء الذي لم يَقتل ولم يشارك في القتل ولم يُعِنْ عليه أو يحرّض عليه، والدين والعقل والفطرة الإنسانية تحرّم جميعُها قتل طفل لا يَعقل ولم يكلَّف ولا حساب عليه ولا عقاب. لو أن أحدهم ذبح طفلي بالسكين وعرفته وصار طفله في يدي، هل يمكن أن أذبحه بالسكين؟ هل أستطيع أن أقتل طفلاً عمره شهر أو عام أو أعوام لأن أباه مجرم قاتل؟ لا أعلم عن غيري، أما أنا فلن أضيع آخرتي لأنفّس عن كَرْب من كروب دنياي، ولقد أمضيت خمسين سنة وأنا أبني إنسانيّتي، فلن أسفحها في لحظة انتقام عمياء.
أيها السادة، أيها الثوار وأيها المصابون والمفجوعون والمكلومون: الله يعلم أنّي يغلي قلبي من الغضب كما تغلي قلوبكم، وإنْ كنتم فقدتم أحبة على أيدي أولئك المجرمين فقد فقدت من قبلكم خالة حبيبة وأقرباء قريبين لا أنساهم، وإني لأتمنى أن يشفي الله قلبي فأرى نزول القضاء بأولئك المجرمين، ولو أن الله عاقبهم بأولادهم لما باليت بهم، ولكني لا أقترف بيدي حراماً، فإن الدين والآخرة يُقدَّمان على الهوى ووازع الانتقام، ولا يُفلح من خرّب آخرته لعمارة دنياه. ألا يرضيكم أن تتركوا الانتقام منهم لله المنتقم الجبار؟ هل تبلغ بكم قلة اليقين والثقة بعدالة الله أن تصرّوا على الاقتصاص بأيديكم ولو بما يخالف شرع الله؟ معاذ الله أن تفعلوا، فاصبروا، فما يومُ الحساب ببعيد، ولسوف ترون حساب الله لأولئك المجرمين معروضاً أمام الخلائق أجمعين، ويومئذ ينتصف المظلومون، ويومئذ يفرح المؤمنون.
“الطائفة الكريمة”: خرافتان و 3 أخطار هائلة
مجاهد مأمون ديرانية
كلما قرأت عبارة “الطائفة الكريمة” ارتجف قلبي من الغضب، وكلما قرأت عبارة “الانتقام الأعمى” ارتجف قلبي من الذعر. ولأن وَجيب القلب لا يغني ولا يفيد إن لم يتبعه عمل، ولأن الإنكار بالقلب لا يكفي لمن يملك الإنكار باللسان، فقد أوجبتُ على نفسي وأوجبَت عليّ طائفة من كرام إخواني وأخواتي أن أكتب هذه المقالة.
سأناقش أولاً خرافتين كبيرتين، ثم أنتقل إلى جوهر المسألة وما ينبغي أن نعرفه وأن نَحْذر من الوقوع فيه، وهو ثلاثة أخطار هائلة، ثلاث كبائر كبيرات، منها ما يفسد دنيانا ومنها ما يفسد آخرتنا. فأما الخرافتان فأولاهما شراكة العلويين في الوطن والوحدةُ الوطنية بينهم وبين سائر مكوّنات الشعب السوري، والثانية هي خرافة “الطائفة الكريمة”. وأما الكبائر الكبيرات فتجدوا الحديث عنهنّ في النصف الثاني من المقالة، فمن شاء فليقفز إليه على الفور ويوفر على نفسه قراءة القسم الأول لأنه من المعلوم من فقه الثورة بالضرورة.
* * *
نحن والعلويون شركاء في الوطن؟ كيف؟ وعلى أي أساس؟ لا يمكن أن يصفنا بأننا شركاء في الوطن إلا مَن يصف السجّانين والسجناء بأنهم شركاء في السجن، أو الجزّارين والأغنام بأنهم شركاء في المسلخ، أو الثيران ومصارعي الثيران بأنهم شركاء في الحلبة. كيف يُمنَح وصف الشراكة لفريقين إذا كان أحدهما يبني والآخر يهدم؟ إذا كان أحدهما يُقتل والآخر يَقتل؟ إذا كان أحدهما يمد اليد بالسلام والآخر يقطعها ويرفض السلام؟
دعونا من كذبة شراكة العلويين في الوطن وتعالوا نسأل: ما هي شراكة العلويين في الثورة؟ هل ينبغي أن أخدعكم وأخدع نفسي وأنسج الحكايات والخرافات لأرضي دعاة الوحدة الوطنية المزعومين أم يجب أن أقول الحقيقة؟ الحقيقة التي أعرفها وتعرفونها جميعاً، فلماذا نتعامى عنها؟
إن العلويين بالجملة مع النظام، يشاركونه بالقتل والتشبيح والإجرام. لا يهمّني هل هم مخدوعون أو مهدَّدون أو خائفون من المستقبل، الذي يهمني هو أنهم كذلك. نعم، أعترف بأن في كل ألف منهم خمسة وعشرين من الشرفاء، كما أن في كل ألف من غيرهم خمسة وعشرين من السفلة الساقطين المجرمين، لكن هذا لا يغير الحكم العام لأن “الأبعاض” لا تُبنَى عليها المصائر والأحكام. إننا نضع الأشراف الأحرار من العلويين على رؤوسنا ونعترف بأنه لا فرق بيننا وبينهم في شرف الانتماء إلى الثورة، ولكن -مع تقديرنا لهم ولمواقفهم- تبقى الطائفة في جملتها محسوبة على النظام ومتحدة مع النظام وغارقة في الإجرام.
إني أقولها بوضوح: ليس العلويون -حالياً- جزءاً من المجتمع السوري ولا من الوطن السوري، إنهم طائفة كانت جزءاً من الوطن إلى أن أخرجت نفسها منه واستولت عليه، ومنذ ذلك اليوم إلى اليوم هي طائفة محتلّة، وقد كان يمكنها أن تصحّح موقفها مع بداية هذه الثورة ولكنها لم تفعل. لقد اختارت أن تكون جزءاً من نظام الاحتلال، لا بل اختارت أن تكون هي الدعامة والركيزة الأساسية لعصابة الاحتلال والإجرام.
ولو كان العلويون حقاً شركاء في الوطن والثورة -كما يزعم بعض الواهمين والمتحذلقين- فلماذا يتوجب علينا أن نرقص فرحاً ونطيّر الأخبار كلما انضم إلى الثورة علوي؟ تشرَّفْنا، في كل يوم ينضم إلى الثورة ألفٌ من الطوائف الأخرى ولا يحتفل أحد. فإما أننا سواء ولا طائفية فلا تُمِلّونا بمثل تلك الأخبار، أو أن العلويين ليسوا منا ولسنا منهم فنحتفل بانضمام أحدهم إلى الثورة كما يحتفل أهل الأرض بوصول كائن مرّيخي إلى الأرض!
* * *
إن من أسخف السخافات أن يُضطَر الضحية إلى تملّق الجلاد. الذين يقتلون السوريين أكثرهم علويون (قلت “أكثرهم” ولم أقل “جميعهم” لئلا أسمع رداً من المتحذلقين)، والذين يعذبون السوريين أكثرهم علويون، والذين يذبحون أبناءهم ويغتصبون نساءهم أكثرهم علويون، والذين يقودون عصابات الأمن والشبيحة وكتائب الجيش المعتدية أكثرهم علويون. كل ذلك يعلمه الضحايا، ثم يُطالَبون بأن يَبْلعوا المُرّ الذي يعلمون ولا يذكروا الطائفة العلوية إلا بخير، بل إنهم لا يجب أن يقرؤوا عن الطائفة العلوية أبداً إلا موصوفة بالكرم، فقد صار مما يهدد الوحدة الوطنية ويعرّض سلمية الثورة للخطر أن يكتب أحدهم “الطائفة العلوية” مجردة، إلا أن يقول: “الطائفة العلوية الكريمة”!
أي كريمة وأي كرامة ونحن نموت ونعذّب وتهدّم مدننا فوق رؤوسنا بأيديهم، وأي كريمة وأي كرامة وهم يصطفّون مع النظام ويمدون النظام بأسباب القوة والبقاء؟ كلما سمعت أو قرأت هذا التعبير (الطائفة الكريمة) تذكرت طائر العنقاء. هل تعرفون ما الصفة المشتركة بين الاثنين؟ كلاهما من المخلوقات الخرافية التي لا تعيش إلا في أخْيِلَة الشعراء وأحلام الحالمين. يعلم الله أني قد ضاق صدري بهذا التعبير، ولقد كرّهوا إليّ كلمة “الكريمة” حتى أوحى لي شيطان نثري (لو كان للنثر شيطان كشيطان الشعر المزعوم) أن أنزّه عنها قلمي فلا أخطها في قرطاس!
لا يا أيها العلويون، لستم أبداً طائفة كريمة، فليس كريماً من يقتل أبناء وطنه، وليس كريماً من يسكت عن أبناء طائفته وهم يقتلون إخوانهم في الوطن. ولا يَقُلْ لي أحد إن منهم مُنكرين للقتل معارضين للنظام، أفليست لأولئك المنكرين المعارضين ألسنة؟ ولا يقل لي أحد إن النظام يحاصر الشرفاء منهم وإنه يهددهم بأفظع المصائر لو تمردوا عليه أو اصطفوا مع الثوار. هل رأيتم أن أحرار سوريا لما عزموا على الثورة حملوا السماورات وعدة الشواء وخرجوا إلى ضفاف الأنهار يأكلون الكباب ويشربون الشاي الأخضر ويلعب أطفالهم على المروج الخضراء؟ أما علمتم أنهم حملوا أرواحهم على أكفهم وخرجوا إلى ساحات الحرية ليلاقوا كل بطش ونكال؟ أكلوا (هوا) لم يأكلوا كباباً وشربوا الموت الزؤام، أما أطفالهم فمنهم من فقد يده أو عينه ومنهم من فقد (العضو) من أعضائه أو عاد إلى أمه جسداً هامداً محمولاً على الأعناق.
لستم طائفة كريمة يا أيها العلويون. لو كنتم طائفة كريمة لثرتم مع الثائرين ولاعتُقل أحراركم مع أحرارنا ولمات أولادكم مع أولادنا وهُدمت بيوتكم مع بيوتنا، أمَا وأنتم القتلة أو الشركاء في القتل أو الشهداء الصامتون على الجريمة، فمن أين يأتيكم الكرم وأنّى تكونوا كرماء؟
* * *
إن في سوريا ثمانية عشر مليون مسلم سنّي، ما سمعت أحداً ذكرهم يوماً في هذه الثورة فوصفهم بالكرم، ولا وصف به المسيحيين ولا الدروز، ولا حتى الإسماعيليين مع أنهم أولى الطوائف بالتكريم لأن موقفهم من الثورة أشرف المواقف في الأقليات. لماذا فقط تحرصون على وصف الطائفة العلوية بالكرم من دون الجميع؟
يا أيها المتحذلقون: كفّوا عن تلك المجاملات الفارغة التي ثابرتم عليها سنة كاملة لم تُثمر مع “الطائفة الكريمة” أيّ ثمرة تُثبت كرمها، ما صنعَت سوى أنها كانت خناجر في صدور الضحايا الذين ذبحناهم مرتين، مرة حينما تخلينا عنهم حتى ذبحهم المجرمون، ومرة حينما بلغ بنا اللطف والضعف أن نتملق القاتل ونقبّل أياديه وأقدامه لكي نثبت له أو لأنفسنا أننا مسالمون لطفاء شركاء في الوطن.
أمَا وقد وصلتم إلى هذا الموضع من المقالة فسوف تقولون: ما جئتنا بجديد، كل هذا نعرفه أكثر مما تعرفه ونقوله أكثر مما تقوله، فلماذا كتبت المقالة من أساسها؟ حسناً، إني لم أضف جديداً فيما سبق، ولكني قصدت أن أجلو المسألة بأكثر صراحة ممكنة لأصل إلى جوهرها وإلى الغاية من طرحها، وهي غاية عملية لا نظرية، لو أننا أدركناها وعقلناها فسوف نوفّر على أنفسنا المعاناة الطويلة وننجو من أسوأ المصائر.
إنما أريد أن أحذّركم من ثلاثة أخطار هائلة، من ثلاث كبائر كبيرات: من مؤامرة لإبقاء العلويين حكاماً لسوريا، ومن فتنة طائفية عمياء، ومن انتقام عشوائي أثناء الثورة وبعد انتصارها.
* * *
إن المؤامرة التي تتعرض لها الثورة السورية اليوم نادرة في تواريخ المؤامرات، فلم يحصل في أي زمان أن تواطأ ذلك العدد الكبير من الدول والقوى على شعب من الشعوب كما يتواطؤون علينا: أميركا وأوربا وروسيا والصين وإيران وإسرائيل والجامعة العربية والغالبية العظمى من دول العرب، وأكثر المنظمات الدولية وجميع الأحزاب القومية واليسارية العربية، وحتى المعارضة العلمانية في الداخل السوري، اجتمعت كلها على شعب أعزل وثورة ضعيفة، فماذا يريدون؟ حمايةَ الأسد والمحافظةَ على حكمه إلى الأبد؟ أبداً، لقد قطعوا من الأسد ونظامه الأملَ ولا حاجة لهم به، إلا أنهم يحرصون على بقاء الطائفة، وهذا هو أعظم مقتل للثورة وأفظع نهاية لها.
هذه “المؤامرة الكبرى” تحدثتُ عنها من قبل وسوف أتحدث عنها من بعد، ولن أزال أتحدث عنها ما بقي خطرها موجوداً، وبسببها قررت أن أكون “طائفياً” في كتابتي -كما بدا للبعض- وأن أسمّي المسميات بأسمائها بلا مواربة ولا لف ولا دوران. إني أحذركم يا أهل الشام الكرام من مؤامرة تديرها أميركا من وراء الستار، أميركا العدو الأكبر والأول لثورتكم والصديق الأصدق والأوفى لعدوكم على مر السنين. مؤامرة تهدف إلى إبقاء العلويين في مراكز القوة في سوريا، في المراكز العليا في الحكم والسياسة والأمن والجيش. فإياكم، إياكم أن تقبلوا ولو استمرت الثورة ألف عام.
إياكم -أيها السوريون الأحرار- أن تسلموا رقبتكم للعلويين بعد اليوم، إياكم أن توافقوا على أن يحكم سوريا العلويون فإنهم قوم لا يوثَق بهم. إياكم أن تبقى السيطرة في سوريا للطائفة العلوية، لا يخدَعْكم أحد فيقنعكم أنها طائفة كريمة، إنها طائفة غادرة لا أمان لها. ويا من ستقولون عني طائفي: قولوا ما شئتم، تكفينا محنة نصف قرن تحت سلطانهم، فإن أكن طائفياً حرّاً كريماً خير لي من أن أكون مخلوقاً وديعاً مسالماً لاطائفياً لا تزيد قيمته على بهيمة من البهائم في مزرعة الأسد وورثة نظام الأسد.
* * *
الخطر الثاني الكبير الذي أريد التحذير منه هو خطر الحرب الطائفية، وقد فعلتُ من قبل فحذّرت، وأعيد اليوم التحذير. إنني أتشبث برفض الفتنة الطائفية وأعتبره أصلاً ثورياً. لا، ليس أصلاً ثورياً فقط، بل أصلاً إسلامياً وأخلاقياً وإنسانياً من أكبر الأصول.
ولن أخدع أحداً ولن أخدع نفسي فأتعامى عن الحقيقة. لقد بدأت الحرب الطائفية في سوريا، بدأها الطرف الآخر بالفعل، فماذا نصنع؟ الجواب: نتحاماها ما استطعنا ونحرص على عدم الانجرار إليها، دون أن نقدّم أولادنا وأنفسنا للذبح مستسلمين. كيف نجمع بين الاثنين؟ بتحديد الحدود الواضحة بين البريء والمعتدي وبين الدفاع والعدوان. إننا نعلم يقيناً أن الحرب التي يشنها النظام علينا هي حرب طائفية، ونعلم أن الطائفة العلوية في جملتها وأغلبيتها (وليس كلها بالتأكيد) هي جزء رئيسي من آلة القتل والعذاب التي تفتك بسوريا والسوريين ليل نهار، ومع ذلك علينا أن نَحْذر ونحذّر من خطة النظام لجرنا إلى صدام طائفي مفتوح وإلى انتقام عشوائي.
يجب أن نعرف أولاً الفرق بين الحرب الطائفية العمياء والحرب العادلة المبصرة، وهو يتبيّن من الفرق في موجبات القتل والقتال؛ في الأولى يسأل المقاتل أو يسأل القاتل: قل لي ما هو دينك أو ما هي طائفتك لأقرر هل أقاتلك وأقتلك أو أدعك وشأنك. في الثانية يسأل: قل لي ما هو عملك وما هي جريمتك؟
في الحرب الطائفية البغيضة الظالمة يكون موجب القتل هو الانتماء إلى دين من الأديان أو طائفة من الطوائف، وهذا الشكل المجنون من الحروب لا دين له ولا أخلاق، لأن الدين يمنع من قتل البريء الذي لم يقترف جرماً، والأخلاق تمنع العدوان والقتل بلا ذنب ولا محاكمة. والأكثر سوءاً هو أن المجرمين الحقيقيين ينالون فرصة كبيرة للنجاة، لأن الجموع والغوغاء ينشغل بعضها ببعض، ويصرف كل فريق منهم جهده وطاقته كلها أو جلها في تعقب الفريق الآخر وتقتيل أفراده، فيما يراقب المجرمون الكبار المشهد من بعيد غيرَ عابئين بموت من يموت ما داموا هم بمنجاة من الهَرْج والمَرْج والانتقام.
تجنبوا الفتنة الطائفية وإياكم أن تنجرّوا إليها ولكن إياكم أن تستسلموا للذبح. من اعتدى عليكم فردّوا عليه ومن ضربكم على صفحة الخد فاضربوه على صفحتَي الخدّين. من قاتلكم فقاتلوه واقتلوه، مهما تكن طائفته أو دينه أو عرقه. ردوا العدوان واضربوا مصدر النيران كلما أُطلقت عليكم النيران، فإن جاءكم القصف من معسكر من معسكرات الأعداء فردّوا بقصف المعسكر، وإن جاءكم من حي أو قرية من أحياء “الموالين” وقراهم فردّوا بقصف القرية أو الحي. أكرر حتى لا يفهمني أحدٌ خطأً وحتى لا يُنقَل عني ما لم أقله: من حقنا أن نرد على العدوان بمثله فقط، ولا يجوز أن نهاجم أي قرية علوية ما لم تهاجمنا، ولا يجوز أن نقصف أي حي علوي ما لم يقصفنا، فنحن لا نحارب العلويين ولا نحارب غير العلويين، إنما نحارب النظام المجرم الذي يحتل سوريا ونحارب من يقف معه، ونحارب من يحاربنا ويقصفنا ويجتاح مناطقنا، كائناً من يكون ومن أي طائفة يكون.
* * *
الخطر الثالث الكبير الذي أريد التحذير منه هو الانتقام الأعمى والقتل العشوائي.
لقد بلغ الضيق والأسى بآلاف الضحايا أنهم ما عادوا يميزون بين المذنب والبريء ما دام الاثنان ينتميان إلى الطائفة ذاتها، وقد امتلأت القلوب بغيظ لا يشفيه إلا انتقام عشوائي من الجميع. في الشهور الأولى من عمر الثورة لم يكن المرء ليعثر على الكثير من الدعوات الهوجاء إلى الانتقام، أما الآن فإننا نجدها في كل مكان. الدعوات إلى القتل العشوائي والانتقام الجماعي لم تعد نادرة اليوم بل صار لها جمهور كبير، وهذا الأمر يفزعني غاية الفزع.
صار من الشائع في الفضاء الثوري -بما فيه من منتديات ومواقع وصفحات- أن يتحدث المتحمسون عن قتل العلويين لأنهم علويون، وهم يسوّغون قتل أطفالهم ونسائهم بحجة أنهم قتلوا نساءنا وأطفالنا، ويستدلون على ذلك الرأي بقوانين العقل والدين. فهل هذا هو فعلاً رأي العقل ورأي الدين؟
يا أيها المسلمون: ماذا تفعلون بقوله تعالى: {ولا تَزِرُ وازرةٌ وِزْرَ أخرى}؟ أيّ وزر يحمله أخو القاتل حتى يُقتَل بجريمة أخيه؟ أي وزر تحمله زوجة القاتل حتى تُقتَل بجريمة زوجها؟ لقد أباح لنا الدين أن نقتص عيناً بعين وسنّاً بسنّ، فإذا قلع المعتدي عيني فجزاؤه قلع عينه وإذا خلع سِنّي فجزاؤه خلع سنّه، صحيح، ولكن هل جزاؤه قلع عين أخيه أو خلع أسنان بنيه؟
الله تبارك وتعالى حدّ لعباده المؤمنين حدود الانتقام في هذه الآية: {فمَن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم }، فجعل محلّ رد الاعتداء محصوراً بالمعتدي نفسه (فاعتدوا عليه)، والأخ والزوجة والولد ليسوا من نفسه. هذا هو جوهر المسألة: إن الاعتداء بالمثل هو على المعتدي نفسه وليس على غيره، لا يُفهم من الآية معنى غيرُ هذا، وما كان لمؤمن أن يخالف أمر الله وأن يعتدي ظلماً على بريء، وما كان لمؤمن أن يُجيّر الجريمة لغير صاحبها ولا أن يقتل بريئاً بمذنب، ولو كان ابنَ القاتل أو أخاه أو أباه. وقد صرح الإمام القرطبي بذلك في تفسيره العظيم فقال في قوله تعالى {فمن اعتدى عليكم}: “من ظلمك فخذ حقك منه بقدر مظلمتك، لا تتعدّ إلى أبويه ولا إلى ابنه أو قريبه” (الجامع لأحكام القرآن 2/360). كتبت هذا المعنى في مقالة سابقة فأرسل لي أخ كريم مؤيّداً، ونقل إجماع العلماء على تحريم قتل المجاهدين لنساء وصبيان المحاربين ما لم يقاتلوا، قال جزاه الله خيراً: “حكى هذا الإجماعَ ابنُ حزم في مراتب الإجماع (ص201) والنووي في شرح صحيح مسلم (12/48) وابن حجر في فتح الباري (6/147)، وغيرهم”.
يا أيها المؤمنون: إن الدين يمنع القتل العشوائي والانتقام الأعمى فيقول: {لا تزر وازرة وزر أخرى}، والدين والعقل يعصمان دمَ البريء الذي لم يَقتل ولم يشارك في القتل ولم يُعِنْ عليه أو يحرّض عليه، والدين والعقل والفطرة الإنسانية تحرّم جميعُها قتل طفل لا يَعقل ولم يكلَّف ولا حساب عليه ولا عقاب. لو أن أحدهم ذبح طفلي بالسكين وعرفته وصار طفله في يدي، هل يمكن أن أذبحه بالسكين؟ هل أستطيع أن أقتل طفلاً عمره شهر أو عام أو أعوام لأن أباه مجرم قاتل؟ لا أعلم عن غيري، أما أنا فلن أضيع آخرتي لأنفّس عن كَرْب من كروب دنياي، ولقد أمضيت خمسين سنة وأنا أبني إنسانيّتي، فلن أسفحها في لحظة انتقام عمياء.
أيها السادة، أيها الثوار وأيها المصابون والمفجوعون والمكلومون: الله يعلم أنّي يغلي قلبي من الغضب كما تغلي قلوبكم، وإنْ كنتم فقدتم أحبة على أيدي أولئك المجرمين فقد فقدت من قبلكم خالة حبيبة وأقرباء قريبين لا أنساهم، وإني لأتمنى أن يشفي الله قلبي فأرى نزول القضاء بأولئك المجرمين، ولو أن الله عاقبهم بأولادهم لما باليت بهم، ولكني لا أقترف بيدي حراماً، فإن الدين والآخرة يُقدَّمان على الهوى ووازع الانتقام، ولا يُفلح من خرّب آخرته لعمارة دنياه. ألا يرضيكم أن تتركوا الانتقام منهم لله المنتقم الجبار؟ هل تبلغ بكم قلة اليقين والثقة بعدالة الله أن تصرّوا على الاقتصاص بأيديكم ولو بما يخالف شرع الله؟ معاذ الله أن تفعلوا، فاصبروا، فما يومُ الحساب ببعيد، ولسوف ترون حساب الله لأولئك المجرمين معروضاً أمام الخلائق أجمعين، ويومئذ ينتصف المظلومون، ويومئذ يفرح المؤمنون.