لا يستطيع إنسان مهما
بلغ به الصبر و الجلد، ان يحبس ألمه و غصته و دموعه عندما يتذكر ما حصل في
الثمانينيات من قتل و تعذيب و انتهاك للأعراض و تشريد على يد مجرمي الجيل الأول من
آل الأسد، و من ساندهم و وقف إلى جانبهم من المرتزقة و فاقدي الشرف و الضمير. و مهما كتب الإنسان و حاول ان يصف ما حصل، فهو
لن يجد كلمات مناسبة تصف أولئك الكلاب و الذئاب و الخنازير الهمجية التي لا تعرف
لغة للتفاهم غير لغة الذبح و الاغتصاب و
تدمير البيوت.


و من اشد ما يذيب
القلب كمداً و حسرة بعد الفجيعة، هو ان المجرمين الذين ارتكبوا هذه الفظاعات لم
يفتلوا من العقاب فحسب، و إنما استطاعوا تربية الناس على الخضوع و الاستسلام لهم. فبسبب شدة الألم و الخوف، تولد عند الكثير من
الناس شعور غريب بتفضيل حياة العبودية تحت أحذية العصابة المجرمة على التعرض للقتل
و التدمير و التعذيب الرهيب. و لذلك أصبح الناس
يتأففون من كل من يحاول تذكيرهم بإجرام المجرمين، بل و يقلبون الحقائق و ينسبون
الجرائم إلى الثوار الشرفاء الذين قدموا حياتهم و اعز ما يملكون حتى يعيش باقي
الناس في عزة و كرامة.


و بعد ان مرت كل هذه
السنوات من الصمت و الخوف، قدر الله ان تشتعل نار الحرية من تحت رماد الوهن و
الاستسلام. فما لبثت الحيوانات المجرمة من
آل الأسد و مرتزقتهم إلا قليلاً حتى عادت لتقوم بنفس ما قامت به في الثمانينيات
لعلها تصل إلى نفس النتيجة من كسر نفوس الناس و إطفاء شعلة النخوة و الكرامة في
قلوبهم و تركيعهم تحت أحذية آل الأسد من جديد.


و عندما نعود و نفكر
في أسباب عدم وصول شعلة الثورة إلى معظم الناس في الثمانينيات و عدم تمرد الجيش
السوري على قادته المجرمين، فيمكن ان نصل إلى ان أهم سبب هو عدم تركيز الثوار
الشرفاء على إسقاط شرعية نظام المجرم الأسد. و بدلاً من ذلك، فقد دخل الثوار في النفق
المظلم للمقاومة المسلحة ضد جيش بلادهم، كما دخل الثوار في حالات زائفة من الثقة
في قدراتهم.


و الشرعية تكون في
شرعية تسيير الشؤون الداخلية للدولة، مثل تسيير الشوارع و الشرطة و المصارف و المدارس و المستشفيات و باقي
الخدمات مثل المياه و الكهرباء، و تكون في شرعية تسيير الشؤون الخارجية للدولة و
علاقاتها مع الدول الخارجية. و للأسف
الشديد، فان العصابة الاسدية المجرمة لم تمهل الثوار حتى يفضحوا خيانة و أكاذيب نظام الأسد و انه هو و
عصابته لا يمكن ان يستأمنوا على مستقبل البلد، لا في الشؤون الداخلية و لا في
الشؤون الخارجية، بل قد دفعت هذه العصابة الثوار الشرفاء إلى ترك توعية الناس و
الاندفاع مباشرة نحو الأعمال المسلحة.


فبدلاً من ان يقوم
الثائر الشريف بالانشغال بتوعية الناس بخطر عصابة الأسد، و أنها عصابة إجرامية همها
الأول هو سرقة أموال الشعب في الداخل و التآمر مع الأعداء في الخارج، أصبح هذا
الثائر يذهب ليتدرب على حمل السلاح بشكل سري، و لا يقوم بشرح قضيته حتى إلى أهله و
جيرانه و أصدقائه. و لذلك عندما قامت
الثورة الشاملة في الثمانينيات لم ينضم إليها سوى عدد قليل جداً من أفراد الجيش.


و لو قدر الله ان
يقوم الثوار الشرفاء في الثمانينيات بالإصرار على فضح حقيقة العصابة الاسدية أمام
كل الناس و بيان كل الجرائم الاقتصادية و الفساد و السرقة و المحسوبية في الداخل و
حقيقة ما حصل في حربي 67 و 73 و حقيقة المواقف المخزية في الخارج، و التركيز على الإثباتات
و الدلائل، بدلاً من الاتهامات الجزافية التي لا تستند إلى حقائق، فلربما كان انشق
عدد كبير من الشرفاء في الجيش و أجهزة الدولة المختلفة.


و لكن قدر الله ان
يكون خطاب الثوار في الثمانينيات عبارة عن ردود أفعال و شتائم طائفية و التوعد
بالثأر لمقتل الشهداء، مما جذب إليهم عدداً محدوداً من الناس.


و قد كان قدر الله أيضا
و نعمته على هذه الثورة ان جاءت في أجواء الثورات التي أخذت تضرب أنحاء العالم
العربي لتسقط اللصوص سارقي أقوات الشعوب و الذين يتخذون من الجيش و الشرطة كأداة لإرهاب
الناس و تخويفهم عندما يطالبون بحقوقهم المسلوبة. كما قد جاءت في أجواء
تمسك و إصرار ثورات الربيع العربي على سلمية الثورة رغم كل أعمال القتل و التعذيب و
الترويع. لان الثورة ليست موجهة ضد الدولة
و شوارعها و وزاراتها و جيشها و مستشفياتها و شرطتها، و إنما الثورة هي لاقتلاع
اللصوص و السارقين و الناهبين و الخونة من المناصب القيادية و استبدالهم بالشرفاء،
و محاسبة كل سارق و ناهب عن سرقته و نهبه، و محاسبة كل مجرم و قاتل و ظالم على
جرائمه.


و لا يعني هذا ان نطلب
من الجنود و الضباط الشرفاء الذين انشقوا على الجيش و انضموا إلى الثورة إلا
يقوموا بحماية المدنيين العزل و تركهم كفريسة أمام آلة القتل و التعذيب
لتسحقهم. و لكن ما أتمناه هو ان ننتبه و
نركز على موضوع إسقاط الشرعية الداخلية و الخارجية للنظام المجرم، بحيث يفهم
الجميع ما الذي نريد ان نقوله و ما هي الأسباب التي دفعتنا إلى الثورة، و ما هي الأدلة
على صحة ما نقول.


أما ان تركنا معركة إسقاط
الشرعية، و تحولت ثورتنا إلى مجرد شتائم للنظام و مناصريه في الداخل و الخارج، و
حمل للسلاح، و تفرغ تام للإعمال المسلحة، فستقوم العصابة الاسدية للمرة الثانية
بتشويه سمعتنا أمام الناس و تلفيق الأكاذيب عن أسباب و أهداف ثورتنا، و تعزلنا عن
الناس، و من ثم تقوم بتجميعنا في أماكن مختارة و تختار الأسلحة الفتاكة المدمرة
(من روسيا طبعاً) و تبيدنا و تصفينا للمرة الثانية.


فهل يلدغ المؤمن من
جحر مرتين؟