اصدرت السلطات السورية قرار بطرد الاب اليسوعي باولو داليليو من سوريا على خلفية مواقفه المؤيدة للثورة السورية؛
وكان الأب داليليو يقيم في دير مار موسى الذي قام بترميمه كاملا بنفسه ابتداءا من عام 1984 لينتهي منه قبل سنتين فقط.
وقد وجه الأب اليسوعي نداء الميلاد الذي دعا فيه إلى المصالحة. لكنه قال فيه إن "للمصالحة عددًا من الشروط الأساسية التي إن غابت أصبح اسمها خضوعًا واستسلامًا". وأضاف إن "أهمّ هذه الشروط هو الاعتراف بالتعددية وبحريّة الرأي، ثم ّ حريّة التعبير عنه، ثمّ حريّة النشر مع احترام الآراء الأخرى وتقديرها والحفاظ على سلامة كلّ المواطنين وكرامتهم."
نداء الميلاد 2011
الأب باولو داليليو / دير مار موسى الحبشي
ما نأمل أن يوجهه الرعاة السوريون إلى رعاياهم المسيحيين
وإلى كلّ السوريين ذوي الإرادة الطيبة والرجاء الصالح
أيها الأحبّاء
سلام
ومحبة وتضامن ومصالحة من الفادي وبعد،
قد رأينا من المناسب أن نراسلكم بخصوص خدمة المصالحة التي نعتبرها من واجبنا المقدّس ومن صلب موهبتنا. نعتقد أنّه لا يحقّ لنا في سبيل معالجة الوضع المأساوي الراهن أن نتبنّى أي مشروع غير إنجيلي أو أن نخالف، ولأي سبب كان، أخلاقَ مسيحنا ومواقف أمّه الطاهرة وسنن الرسل والتلاميذ في الكنيسة الأولى.
لن يحمينا من شرّ هذا الدهر سوى الطاعةُ لمعلّمنا يسوع، وديع الناصرة والمتواضع المصلوب، المسيح القائم من بين الأموات.
تعود هذه السنة أيضًا ذكرى طفل المغارة الذي وُلِد في مذودٍ حقير في ظرف فقر أهله، تشرّد أمّه وحيرة وليّ أمره. إنّ هذا المشهد لا يعجبنا، كما أن مشهد المصلوب لا يشرّفنا... ولكن ما عاناه مسيحُ الناصرة وأهله من الشدائد والاضطهادات يُضيء لنا الطريقَ الصحيحة في الظروف الحاليّة.
إنّ بلدنا في حالة خطرة جدًا وقد اصطفّ البعض منّا مع طرف والبعض الآخر مع أطراف أخرى. فعلينا أن نتساءل: أين واجب الجماعة التي تطيع الإنجيل؟ ألم تزل وظيفتها تكمن في خدمة الوئام والمصالحة في الحاضر كما كانت في الماضي؟
كثيرون هم الذين يتكهنون بانتهاء قريب للأحداث الكارثية الجارية بتوفيق وانتصار هذا الصف أو ذاك ... بينما يتنبّأ الآخرون بالمزيد من التصاعد في العنف وبالوصول إلى تقسيم البلد بشكل دائم مع دفع مئات الآلاف من الضحايا البشرية، وفقدان الوحدة والاستقلال، وضياع دور الأمة وشرف الوطن إلى أجل غير مسمّى.
وهنا الأمر الأول الذي لا بدّ لنا أن نصرّح به: مهما حدث في بلدنا وبأي طريقة سيحدث وبأي نتيجة سيأتي بها، نحن تلاميذ يسوع، نبقى متضامنين مع كلّ سوريّ بغضّ النظر عن انتمائه السياسي أوالديني أوالعشائري أواللغوي. يبقى كلٌّ منّا متضامنًا مع جاره ولا يختار بين جارٍ وجار إلا دعمًا للإنصاف ودفاعاً عن الضعيف. فلنستعدّ، عند الشدّة، لتقدمة المأوى لجارنا كائنًا من كان، ولنعرف أنّه عند الخطر لايأوينا إلّا جارُنا الذي تشاطَرْنا معه منذ الطفولة خبزَ الأفراح والأحزان.
في الوقت الحالي ليس علينا أن نلصق الاتهامات بهذا أو ذاك أو أن نحكم على أصناف المواطنين المتنازعين.
علينا أن نقول للجميع إننا نرغب بخدمة المصالحة وأن نبرهن رغبتنا هذه بالأفعال. فعلى كلِّ حال وفي نهاية المطاف لا بدّ من المصالحة. الكلّ يعلم أنّه، أرابحًا كان أم خاسرًا، يأتي يومٌ عليه فيه أن يتفق مع خصمه أو أن يهاجر.
لا نعلم الشكلَ الذي سيأخذه بلدنا بعد هذه الأيّام الأليمة للجميع والمليئة بالرجاء والحزن معًا، بالحماس والتشاؤم، بالشجاعة والخوف، بالتضحية والجرم. لا ندري،
هل سيحافظ الوطنُ على وحدته وبأي شكل؟ هل سيتمتّع المواطنون بالمزيد من الحريّة أو يفقدونها؟
هل سيحصل شعبُنا على ديمقراطية تعددية ومدنية وتوافقية تحترم الجميع على تباين صفاتهم وهوّيّاتهم، أو يحصل عكس ذلك على "تغلّبيّة" يُظلَم فيها المواطنُ باسم أكثرية متحجّرة؟
نشعر في هذه الأزمة أن دورنا هو دور الحوار والتواصل وبناء الجسور وخدمة المصالحة.
هل يا تُرى ينبع اختيارُنا "اللاعنف" من خوفنا وضعفنا أم من فضيلة وقرار؟ يجوز الوجهان، ولكنّ الخوف تحكّم بنا طويلًا منذ الماضي وإلى الآن مما جعل البعضَ منّا يستمرّون في أخذ مواقف موالية لقمع الحريّات ورفض التغيير والالتجاء إلى الأمس والتمسّك به. هل هذا هو طريق الخلاص والحق؟
وهل يمشي على طريق الرجاء والحريّة ذاك الذي اختار أن يمارس الاغتيالات "على الهوية" والخطف وغير ذلك من الممارسات المشينة؟ وهل يا تُرى يتصرّف هو أيضًا بدافع من الخوف والضعف؟ وأخيرًا هل تبرر الغَيرة الدينية أو المذهبية التقليل من كرامة وإنسانية الآخرين مع التكفير والتهميش؟
مع كلّ ذلك نبقى على قناعتنا أنّ المصالحة تتم بين الأعداء لا الأصدقاء! وتنجح بتحقيق وفاق يأخذ بعين الاعتبار جديًّا ما يُطالب به كلّ من الأطراف بطريقة معقولة، وهنا نحاول أن نقدّم خدمتنا المسيحية المتواضعة لا كطرف بل كوسيط.
والأمرُ الثاني: إنّما دورنا خدمة المصالحة، ولكنّ للمصالحة عددًا من الشروط الأساسية التي إن غابت أصبح اسمها خضوعًا واستسلامًا. أهمّ هذه الشروط هو الاعتراف بالتعددية وبحريّة الرأي، ثم ّ حريّة التعبير عنه، ثمّ حريّة النشر مع احترام الآراء الأخرى وتقديرها والحفاظ على سلامة كلّ المواطنين وكرامتهم.
فلنأخذ بعين الاعتبار أنّ سوريا ليست جزيرةً منعزلةً فهي على علاقة مع كلّ الناس في الاتجاهات الأربعة ... فالانغلاقُ قاتل وخانِق. إذًا لماذا لا توفر سوريا مجالًا للتصالح بين الأطراف المتنافسة والمتنازعة في منطقة الشرق الأوسط بدلًا من أن تقدّم لها ميدانًا لمعاركها على حساب شعبنا؟ إننا ندري كم عانى شعبنا في سبيل وفائه حفاظًا على قضايا الأمّة المشروعة ... ولكن هل يا ترى يفيد الأمّة أن نقتل ونخوّن بعضنا البعض؟
نضطر أن نستمع في هذه الأيام إلى خطابات يفرزها التطرّف وينقصها الاتّزان، مع أننا لا نجد في الكتب السماويّة، لا في عهدَي الكتاب المقدّس ولا في القرآن الكريم، وأيضًا لا نجد في مؤلّفات حكماء الماضي والحاضر ما يؤيّد الانقسام بين الناس والانزواء وعدم الإصغاء لآراء من خلقهم الله وإيّانا سكانًا لأرض واحدة لا تحتمل التشرذم ... هناك ما اسمه تفاوضٌ واتّفاق ودستور واعتراف بالخصوصيات المحليّة ... وللعقلاء حلول كثيرة أمّا أهل الغفلة فلا شيء يرضيهم ويذهبون إلى الهلاك ويجرّون إليه غيرهم وحتّى البلد برمّته ولا شيء بوسعه أن يوقفهم.
طبعًا، هناك تآمر، بل تآمرات، ولا يَكمُن خلاصُنا في انخراطنا في منطق التآمرات بل في البحث عن التعاون مع كلّ إنسان حرّ ذي إرادة طيبة في المنطقة كما في العالم. يستحيل هذا دون الترحيب الحقيقي الصادق بوسائل الإعلام العربية والأجنبية على تنوّعها، لأن الحقيقة تظهر عبر تعددية الصحافة واستقلالها. وأيضًا نتجرأ أن نقترح الاستعانة بمؤسسات إنسانية مستقلة كالصليب/الهلال الأحمر لمساعدتنا، نحن أهل سوريا، في سبيل إيقاف النزاعات المسلّحة وحماية المدنيين العُزّل.
أحباءنا المسيحيين، يأتي الأمر الثالث وينبع من قناعة وتعليم بطاركة الشرق ومن توصيات مجمع الأساقفة برئاسة بابا روما لأجل الشرق الأوسط (2010) وهو أنّ وجودنا مع المسلمين في الوئام والتقدير وضعٌ يريده لنا الله المحب للبشر، وهو وجود تاريخي ومصيري. هذه بلدنا ولا شك منذ قديم الزمان، منذ ألفي سنة على الأقل، وهي أيضًا وبالتأكيد البلد المشترك بيننا وبين المسلمين منذ أربعة عشر قرنًا.
حان وقت التحرّر من مخاوفنا وأفكارنا المسبقة تجاه مشاركة المسلمين في الحِراك السياسي. لا ريبَ أنّ هناك أسباب قلقٍ بسبب التطرّف والعنف لدى البعض، كما لا يمكن لآخرين تصوّر نظامٍ سياسي يقرّر عن أكثرية المواطنين معتبرًا إيّاهم غير ناضجين وغير عارفين بخير البلد، فلنبحث عن الحلّ في التفاوض لا في التهميش.
للأسف اختار فيما مضى عدد كبير من الإخوة والأخوات من رعايانا الهجرة عن البلد وتزداد هذه الظاهرة اليوم. الأسباب مفهومة وفي كثير من الأحيان معقولة إلّا أنّ طفل المغارة يدعونا إلى بذل جهد جديد لخدمة السلام والوئام في سوريا. هو الذي يرسل إلى قلوبنا رجاءً جديدًا وتعزية غير موصوفة ترمّم قلوبنا الجريحة وتجعلنا أكثر التزامًا في السعي نحو المصالحة في كلّ حال وعلى كلّ حال.
بمناسبة ميلاد هذا الطفل العجيب ملك السلام ترغب قلوبنا أن تعبّر عن التضامن والمشاركة في حزن كل عائلة فقدت عزيزًا في هذه الأحداث المأساوية وكذلك نطلب التعزية لأهالي المعتقلين والمفقودين والجرحى والمقاتلين، وندعو لكلّ جائع وبردان ولكلّ معرّض للخطر والانتقام ... ونطلب النور لكلّ مسؤول في كلّ طرف وانتماء لكي يختار بصدق طريق المصالحة. فليس من عدلٍ وإنصاف دون مسامحة وغفران.
حمانا وهدانا وشفانا الرحمن، وقصّر محنتنا، وكلّ عامٍ وأنتم بخير وسوريا بخير.
-----------