أتجول في شوارع بلدي الحبيب، ألتفت يمنة ويسرة، أدور حول نفسي دورة كاملة. هل أنا فعلاً في بلدي الذي ولدت خارجه وترعرعت بعيداً عنه؟ هل فعلاً قرت عيني برؤيته؟ هل أصبحت -كغيري من البشر- ذو وطن وهوية؟ يا الله، كم هو جميل هذا الشعور. أتابع خطواتي نحو الحي الذي كان يسكنه والدي، لأرى هناك أعمامي وأبناءهم وأحفادهم. طالما زارونا في بلاد الغربة متذرعين بالسفر للتجارة أو للعلاج، ها أنا ذا أراهم مجتمعين حولي يرحبون بي ويصفقون ويتهللون فرحاً.
هل أنا في حلم؟ أمد يدي لابن عمي: اقرصني لأتأكد بأنني لا أحلم. يقرصني بكل ما أوتي من قوة، آآآه … تستيقظ زوجتي بجانبي:
- ماذا أصابك؟
- لقد آلمتني القرصة…
- بسم الله عليك، نام نام
نام! أتأوه ثانية، ولكن هذه المرة من ألم الصدمة، ومرارة الحقيقة. إذاً، كنت فعلاً في حلم. ليتني لم أتحقق منه، ليتني تابعته حتى النهاية، ليتني وليتني…
لقد ذهب نومي بعيداً، وجالت الأفكار في مخيلتي؛ منذ متى يراودني هذا الحلم؟ منذ متى وأنا أحلم أني في بلدي أقف أمام موظف الحكومة لكي أتسلم جواز سفري؟ وحتى متى سأظل أحلم؟ لماذا لا أحوّل حلمي إلى حقيقة؟ إلى متى سأبقي ذلك الحمل الثقيل على كاهلي؟ وما ذنبي أنا أصلاً لكي أحمله؟ إلى متى سأبقى مهجراً ولاجئاً؟
في الصباح الباكر، كنت قد أيقنت فعلاً بأنني مذنب، وذنبي هو أنني ولدت لأبٍ هرب من بلده خوفاً على روحه التي كان سيخسرها بسبب شبهةٍ حامت حول صديقٍ له في المدرسة واعتقل على إثرها. لبست ثيابي، واتجهت إلى سفارة بلدي الحلم لأعلن توبتي. وقفت لساعات في طابور طويل من أمثالي. عشرات المراجعين يقفون أمام شباك بانتظار أن يطل عليهم أحد من الطرف الآخر. علامات الاستياء ترتسم على وجوههم، وهمسات تنطلق من هنا وهناك تعبّر عن شيء من التذمر الخائف: لماذا لا يضعون المزيد من الشبابيك؟ لماذا لم يبدأ الموظف باستلام المعاملات رغم بدء الدوام الرسمي؟ لماذا أضطر لمراجعات متكررة لكي أمهر شهادتي المدرسية بخاتم السفارة؟ لماذا لا يوجد هنا مقاعد لاستراحة المرضى وكبار السن؟ لماذا لا يضعون لنا مظلات تقينا حر الشمس وزخات المطر؟ لم لا يجيبون على استفساراتنا عن طريق الهاتف؟
شعرت بأن رأسي قد تحول إلى كومة من علامات الاستفهام. وفجأة، وإذا بموظف الاستقبال يطل من خلف النافذة: "يا جماعة رجاءً التزموا بالدور"!! وتقفز علامة استفهام كبيرة: "هلأ صرتوا نظاميين؟". ويسير الطابور بطيئاً، إلى أن يأتي دوري.
- تفضل أستاذ
- أريد مقابلة المسؤول الأمني
- أوف، ليش؟
- أريد أن "أزبّط وضعي"
- يعني أنت مطلوب؟
- لا أدري، ربما
- أعطني هويتك
- لا أملك هوية
- جواز سفر
- لا أملك جواز سفر
- كيف أتيت إلى هنا؟ تهريب؟
- لا، بل ولدت هنا
- عندك إخراج قيد؟
- لا، كيف سآتيك به وليس عندي جواز ولا هوية ولا حتى رخصة قيادة؟
- بدنا شي يثبت إنك سوري … اللي بعدو
- طوّل بالك..
أخرجت له الوثيقة الوحيدة التي أملكها، شهادة ميلاد عليها اسم والدي ووالدتي السوريين. تفحصها، وطلب مني كتابة استدعاء لكي أتمكن من الدخول إلى مبنى السفارة العامرة. طلب مني رقم هاتفي، ورقم "صندوق البريد"، ظننت للوهلة الأولى أنه يقصد البريد الالكتروني، كتبته بسرعة، وناولته الاستدعاء مذيلاً بمعلومات الاتصال الخاصة بي. نظر إليها، تأمل بعنواني الالكتروني وتساءل:
- ما هذا؟
- بريدي الالكتروني، كما طلبت
- ماذا تعني؟ فيسبوك؟
- صرخت مذعوراً: لا لا، بعيد الشر، هذا شي مختلف تماماً، إلا أنه يعمل بالإنترنت
- امحيه بلا حكي فاضي، واكتبلي عنوانك ورقم تلفونك داخل القُطُر … اللي بعدو
عنواني داخل القطر؟! من أين لي بذلك؟ هل يا ترى أملك عنواناً داخل القطر؟ هل أكتب له عنوان بيت والدي الذي أحرقته الأجهزة الأمنية واستولت عليه فيما بعد؟ هل أخبره بأن عنواني داخل القطر هو نفسه مقر الفرع 79؟ وهل سيصدق ذلك؟ أخيراً اهتديت إلى كتابة اسم مدينتي التي كان يعيش فيها والدي واسم الحي. حسناً، وماذا عن رقم الهاتف؟ تذكرت قصة طريفة، تذكرت كيف أن أحد أقاربي "قدَّم على تلفون"، ووعدوه بتوصيله خلال يومين. فذهب إلى محل واشترى جهاز هاتف ووصله بالمقبس بانتظار مجيء فني الهاتف لتوصيل الخط. وطال انتظاره لأكثر من يومين، استمر يومياً برفع السماعة للتأكد من وجود "الحرارة" لمدة سنتين. كانت قد مضت السنتان عندما روى لي القصة، وهو مازال ينتظر ربما ليومنا هذا. بعدها سمعت عن شخص آخر كان يسجل خط هاتف لكل ابن من أبنائه فور ولادته حتى يأتي دوره عندما يتزوج ويستقل (بدون مبالغة).
عدت إلى موظف الاستقبال، ودفعت إليه بالورقة، وقلت له وبكل ثقة:
- هذا هو عنواني داخل القطر، لكنني ما زلت أنتظر تركيب خط الهاتف.
ولحسن الحظ، فقد سمح له غباؤه بتصديقي. وضع الورقة جانباً وقال:
هل أنا في حلم؟ أمد يدي لابن عمي: اقرصني لأتأكد بأنني لا أحلم. يقرصني بكل ما أوتي من قوة، آآآه … تستيقظ زوجتي بجانبي:
- ماذا أصابك؟
- لقد آلمتني القرصة…
- بسم الله عليك، نام نام
نام! أتأوه ثانية، ولكن هذه المرة من ألم الصدمة، ومرارة الحقيقة. إذاً، كنت فعلاً في حلم. ليتني لم أتحقق منه، ليتني تابعته حتى النهاية، ليتني وليتني…
لقد ذهب نومي بعيداً، وجالت الأفكار في مخيلتي؛ منذ متى يراودني هذا الحلم؟ منذ متى وأنا أحلم أني في بلدي أقف أمام موظف الحكومة لكي أتسلم جواز سفري؟ وحتى متى سأظل أحلم؟ لماذا لا أحوّل حلمي إلى حقيقة؟ إلى متى سأبقي ذلك الحمل الثقيل على كاهلي؟ وما ذنبي أنا أصلاً لكي أحمله؟ إلى متى سأبقى مهجراً ولاجئاً؟
في الصباح الباكر، كنت قد أيقنت فعلاً بأنني مذنب، وذنبي هو أنني ولدت لأبٍ هرب من بلده خوفاً على روحه التي كان سيخسرها بسبب شبهةٍ حامت حول صديقٍ له في المدرسة واعتقل على إثرها. لبست ثيابي، واتجهت إلى سفارة بلدي الحلم لأعلن توبتي. وقفت لساعات في طابور طويل من أمثالي. عشرات المراجعين يقفون أمام شباك بانتظار أن يطل عليهم أحد من الطرف الآخر. علامات الاستياء ترتسم على وجوههم، وهمسات تنطلق من هنا وهناك تعبّر عن شيء من التذمر الخائف: لماذا لا يضعون المزيد من الشبابيك؟ لماذا لم يبدأ الموظف باستلام المعاملات رغم بدء الدوام الرسمي؟ لماذا أضطر لمراجعات متكررة لكي أمهر شهادتي المدرسية بخاتم السفارة؟ لماذا لا يوجد هنا مقاعد لاستراحة المرضى وكبار السن؟ لماذا لا يضعون لنا مظلات تقينا حر الشمس وزخات المطر؟ لم لا يجيبون على استفساراتنا عن طريق الهاتف؟
شعرت بأن رأسي قد تحول إلى كومة من علامات الاستفهام. وفجأة، وإذا بموظف الاستقبال يطل من خلف النافذة: "يا جماعة رجاءً التزموا بالدور"!! وتقفز علامة استفهام كبيرة: "هلأ صرتوا نظاميين؟". ويسير الطابور بطيئاً، إلى أن يأتي دوري.
- تفضل أستاذ
- أريد مقابلة المسؤول الأمني
- أوف، ليش؟
- أريد أن "أزبّط وضعي"
- يعني أنت مطلوب؟
- لا أدري، ربما
- أعطني هويتك
- لا أملك هوية
- جواز سفر
- لا أملك جواز سفر
- كيف أتيت إلى هنا؟ تهريب؟
- لا، بل ولدت هنا
- عندك إخراج قيد؟
- لا، كيف سآتيك به وليس عندي جواز ولا هوية ولا حتى رخصة قيادة؟
- بدنا شي يثبت إنك سوري … اللي بعدو
- طوّل بالك..
أخرجت له الوثيقة الوحيدة التي أملكها، شهادة ميلاد عليها اسم والدي ووالدتي السوريين. تفحصها، وطلب مني كتابة استدعاء لكي أتمكن من الدخول إلى مبنى السفارة العامرة. طلب مني رقم هاتفي، ورقم "صندوق البريد"، ظننت للوهلة الأولى أنه يقصد البريد الالكتروني، كتبته بسرعة، وناولته الاستدعاء مذيلاً بمعلومات الاتصال الخاصة بي. نظر إليها، تأمل بعنواني الالكتروني وتساءل:
- ما هذا؟
- بريدي الالكتروني، كما طلبت
- ماذا تعني؟ فيسبوك؟
- صرخت مذعوراً: لا لا، بعيد الشر، هذا شي مختلف تماماً، إلا أنه يعمل بالإنترنت
- امحيه بلا حكي فاضي، واكتبلي عنوانك ورقم تلفونك داخل القُطُر … اللي بعدو
عنواني داخل القطر؟! من أين لي بذلك؟ هل يا ترى أملك عنواناً داخل القطر؟ هل أكتب له عنوان بيت والدي الذي أحرقته الأجهزة الأمنية واستولت عليه فيما بعد؟ هل أخبره بأن عنواني داخل القطر هو نفسه مقر الفرع 79؟ وهل سيصدق ذلك؟ أخيراً اهتديت إلى كتابة اسم مدينتي التي كان يعيش فيها والدي واسم الحي. حسناً، وماذا عن رقم الهاتف؟ تذكرت قصة طريفة، تذكرت كيف أن أحد أقاربي "قدَّم على تلفون"، ووعدوه بتوصيله خلال يومين. فذهب إلى محل واشترى جهاز هاتف ووصله بالمقبس بانتظار مجيء فني الهاتف لتوصيل الخط. وطال انتظاره لأكثر من يومين، استمر يومياً برفع السماعة للتأكد من وجود "الحرارة" لمدة سنتين. كانت قد مضت السنتان عندما روى لي القصة، وهو مازال ينتظر ربما ليومنا هذا. بعدها سمعت عن شخص آخر كان يسجل خط هاتف لكل ابن من أبنائه فور ولادته حتى يأتي دوره عندما يتزوج ويستقل (بدون مبالغة).
عدت إلى موظف الاستقبال، ودفعت إليه بالورقة، وقلت له وبكل ثقة:
- هذا هو عنواني داخل القطر، لكنني ما زلت أنتظر تركيب خط الهاتف.
ولحسن الحظ، فقد سمح له غباؤه بتصديقي. وضع الورقة جانباً وقال: