بعد ستة أشهر من المراجعات والاستجوابات التي أجراها معي موظف الاستقبال في السفارة، سمح لي بمقابلة المسؤول الأمني في السفارة. دخلت وإذا به يجري بعض الاتصالات هنا وهناك، ومن خلال استماعي لمكالماته الهاتفية، اكتشفت أنه "من جماعة سيدنا" أولاً، ثم أنه نسخة مطورة من موظف الاستقبال الغبي.
انتظرت حتى أنهى اتصالاته، التفت إلي وسألني:
- ماذا تريد؟
- أريد أن أحصل على جواز سفر لكي أعود إلى سوريا
- وين أبوك؟
- عفواً، لكني تجاوزت سن التكليف القانونية وأصبحت مسؤولاً عن نفسي
- بدك تعلمنا شغلنا ولاه؟
- لا، العفو، لكن لماذا يجب عليه الحضور؟
- بدنا نشوف جوازو مزور ولاّ رسمي، من وين جاب جوازو؟
- في الحقيقة لا أعلم، من إحدى السفارات السورية
- يعني مو من عند الإخوان؟
- والدي لا علاقة له بالإخوان ولا بغيرهم
- ليش ما بينزل عسوريا؟
- لأنه يخاف من الملاحقة، لأن صديقه مطلوب.
- خليه يجي لعنّا نقعد سوا نشوف شو بدّو شو طلباتو
تسائلت في نفسي: كيف لي أن أنهي هذا الحوار السخيف؟ كيف سأقنعه بأني لا علاقة لي بوالدي حتى لو كان مجرماً أو مزوّراً أو أياً كان؟ هل أتبرأ من والدي؟
- أستاذ، والدي يرفض مراجعة السفارة، ويرفض تصليح وضعه، حاولت معه كثيراً
- اعطيني معلومات عن والدك وعنك وعن إخوتك وأخواتك وخلي أبوك يراجعنا
وبدأ يسرد علي سلسلة الأسئلة ذاتها التي أجبت عنها عشرات المرات. عن تاريخي وتاريخ عائلتي وأفراد عائلتي وتواريخهم، وممن تزوج من تزوج منهم، وأين يعيش كل فرد من أفراد العائلة. ثم توقف عن طرح الأسئلة وتابع كتابة تقريره المطوّل، ربما ملّ من سؤالي فقرر إكمال بقية المعلومات عني من تلقاء نفسه، وربما وجد تشابهاً بيني وبين عشرات آلاف المواطنين الآخرين، فتوقع أن مسيرة حياتي لا تختلف عنهم.
دفع بالتقرير إلى موظف لديه في المكتب المجاور طالباً منه تصويره، وطلب مني أن أنتظر. عندما طال انتظاري، فكرت بفكرة شجاعة، فكرت بأن أذهب لموظف التصوير كي أذكره بمعاملتي. تذرع بأنه مشغول، فكرت بفكرة أكثر شجاعة:
- بإمكاني أن أساعدك إن كنت مشغولاً
- بتعرف تصوّر؟
- نعم، أنا أعمل في التصوير
- صوّر أوراقك وإذا احتجت مساعدة اسألني
بدأت بتصوير "الإضبارة" وأنا أقرؤها صفحة صفحة، وأتساءل في نفسي: "أي جهاز أمن هذا الذي يسمح لي بالاطلاع على ملفي؟" وللوهلة الأولى خيّل إلي بأني أتعامل مع أكثر الأجهزة الأمنية شفافية في العالم. إلا أنني، وفي الصفحات الأخيرة من ملفي، اكتشفت أنني أتعامل مع أكثر الأجهزة الأمنية استهتاراً بالوطن والمواطن. تلك التي تفتري على المواطن في تقاريرها، وتقّوله مالم يقل، ومن ثم تسمح له بالاطلاع على تلك التقارير الكاذبة. أي أمن هذا وأي وطن؟
نزلت الدرج باتجاه بوابة السفارة الخارجية، وجدت إحدى الموظفات تناديني وتعرض مساعدتي. ربما ملت من كثرة زياراتي، ربما سئمت رؤيتي أمر من أمامها جيئة وذهاباً. أو ربما تؤدي دورها الذي طلب منها. أو ربما كانت "بنت حلال" وشعرت بمعاناة أخيها المواطن. المهم، أخبرتني بأن أقصر الطرق لزيارة بلدي هو طلب "زيارة مغترب"، وبدأت السير في هذا الطريق، وطال كالعادة، وكانت النتيجة إيجابية. جاء الرد من القطر بالموافقة، وأبلغت عن طريق الهاتف. مفاجئتان متتاليتان: بلدي يرغب باستقبالي، والسفارة المتخلفة تستخدم تكنولوجيا الاتصال الهاتفي.
تسلمت الموافقة الورقية، وكدت أطير من الفرح، إلا أن الموظفة "بنت الحلال" نبهتي إلى ضرورة قراءة الملاحظة المدونة في ذيل الورقة، والتي كانت تفيد بضرورة مراجعتي للفرع 274 فور دخولي القطر. صدمت للحظة، ثم قررت المتابعة مهما كلف الأمر.
* * *
تحقق حلمي أخيراً … سجدت على أرض وطني، مرغت شفتيّ بترابه الطاهر، سالت دموعي رغماً عني … يا إلهي، شكراً لك، لولا لطفك وعنايتك لما كنت هنا.
دخلت مبنى المطار، لم يكن هدفي أن ألاحظ مظاهر التخلف في البناء والخدمات، إلا أنها أبت إلا أن تظهر أمامي. لم أشأ أن أشاهد ذلك الذي فقد أمتعته، أو أولئك الذين اصطفوا في طوابير طويلة يمسك كل واحد منهم خمسون ليرة سورية أو ما يعادلها من عملات أجنبية لكي يدفعوها لموظف الجوازات، فوجئت بهذا العرف السائد، وفوجئت بغيره من مظاهر التخلف التي تملأ الأجواء. لم يهمني ذلك، كان كل همي منصباً تجاه المستقبل الباسم الذي ينتظرني في بلدي وبين أهلي.
في اليوم التالي، ركبت باص ال"هوب هوب" واتجهت إلى مركز المحافظة لمراجعة الفرع المذكور. جلست بجانب النافذة، وانطلقت بنا الحافلة. كم هو جميل بلدي رغم البؤس الذي يظهر على جدران بناياته وعلى جنبات شوارعه. كم هو جميل رغم الفقر الذي يكسوه، ورغم الظلم الذي يخيم في سمائه. تسير الحافلة، ويتوقف السائق عدة مرات ليمد يده من النافذة لرجل المرور مؤدياً الحق المتعارف عليه. تنطلق الحافلة خارج المدينة على الطريق الخارجي الذي يشبه الشوارع المعبدة نوعاً ما. تصل بنا الحافلة إلى مركز المحافظة، أتابع رحلة بحثي عن الفرع المشؤوم، أصل أخيراً…
دخلت إلى المبنى، رائحة العفن تفوح منه، عفن الجهل والظلم والتخلف. طالت رحلة بحثي ولحظات انتظاري في الفرع. وتتابعت علي عروض العناصر لمساعدتي مقابل مبلغ كذا وكذا … وبعد أن حصلت على عرضٍ مغرٍ ووافقت عليه، اصطحبني المساعد إلى مكتب المقدم:
- سيدي هذا عندو مراجعة
- فهّمتو نظامنا؟
- إي سيدي، ولكزني في خاصرتي قائلاً: حركلنا حالك أستاذ
فهمت حينها أن وقت الدفعة الأولى قد حان. أخرجت من جيبي مبلغ 200 ليرة سورية، بالغت في إخفائها، ومددت يدي باتجاهه متصنعاً المصافحة، خوفاً من أن يرانا أحد المسؤولين من لجان مكافحة الفساد التي شكلها السيد الرئيس. صرخ بي قائلاً:
- ليش مستحي ولا؟ شو إنت عم تدفع لشرمـ…؟ الكل هون بيدفع ليمشي أموره
لم أفاجأ بهذا المستوى من الألفاظ، فطبيعة المكان، وهيئة السيد المقدم، توحي للزائر بمستوى أدنى من ذلك بكثير. بعدها شرح لي المساعد بقية (الأنظمة) المعمول بها داخل المركز، وتسلسل (الحرامية) الذي سأمر خلاله.
اصطحبني مجدداً إلى المكتب التالي، مررت أمام غرفة الإضبارات، ألقيت نظرة من بعيد لأجد غرفة قد ملئت أوراقاً وملفات تقدّر بعشرات الأطنان. يا إلهي! لماذا لا يستخدمون الكمبيوتر ليخزنوا هذه المعلومات على قرص صغير لا يتجاوز حجمه حجم الكف ولا يزيد وزنه عن 200 جرام؟ اكتشفت لاحقاً بأن الأمر يتعدى مجرد الحاجة لجهاز حاسوب بكثير. اكتشتف أن ذلك الفرع خالٍ تماماً من أي مظهر من مظاهر التكنولوجيا الحديثة، وأقصد بالحديثة تلك التي ظهرت خلال العشرين عاماً الماضية.
وصلت أخيراً إلى مكتب العميد، دخلت إليه وإذا به نسخة مكررة من ذلك المسؤول الأمني الذي قابلته في السفارة، ونسخة مطورة كذلك من المقدم الذي قابلته للتو. يجلس خلف مكتب متهالك، يضع عليه مجموعة من الملفات التي تكاد أن تغطي سيادته، مجموعة من الأقلام، وعلبة من المصحح ذي الريشة.
وقفت عند الباب مذهولاً بما رأيت، ينطلق صوت المساعد من ورائي:
- سيدي هذا عندو مراجعة
- أهلا وسهلا، تعال قعود
تقدمت وجلست على كرسي متهالك آخر، ونظرت إلى سيادته لأدرك عن قرب ملامح الحمق التي لم أشاهدها في مخلوق سابقاً. قام بجمع بعض الأوراق الفارغة، طلب من المساعد إحضار إضبارتي من الإرشيف، وبدأ باستجوابي.
ما إن طرح سؤاله الأول، حتى أيقنت بأنني سأستمع لنفس الاسطوانة من الأسئلة التي سمعتها مراراً وتكراراً أثناء مراجعتي لسفارة بلدي. أسئلة تتعلق بكل ما يخصني، بدءاً من مقاس حذائي مروراً بطول قامتي، أصدقاء طفولتي، أسماء إخوتي وأخواتي، أخوالي وأبناء عمومتي.
ثم انتقل إلى أقاربي ومعارفي المغتربين، سألني عنهم فرداً فرداً، فوجئ عندما علم أنني وأقراني جميعاً أكملنا التعليم الجامعي، نظر إليّ مستغرباً:
- ولو كلكن دارسين جامعة؟!
- نعم، وبأعلى التخصصات
- كمان بنات ال….. صرن يدرسن جامعة؟!
- نعم، وكثير منهن أكملن التعليم العالي
- وشو يعني تعليم عالي؟!
- يعني ماجستير ودكتوراه
- !!!
وما إن انتهى من سرد اسطوانة الأسئلة، حتى كان المساعد قد نجح –بقدرة قادر- على إيجاد إضبارتي بين تلال الملفات التي شاهدتها قبل قليل. فتح الملف، وبدأ يقلب أوراقه مستغرباً، ثم نظر إليّ بشيء من الحقد قائلاً:
- ولاه هذا أبوك مجرم كبير
- لا أدري، أنتم أعرف
- كيف مابتعرف ولاه؟ شو عم تجدبها علينا؟!
- لا العفو، لا أحد يمتلك الجرأة للعب معكم …
- روح هلق وارجع بكرة بعد ما تكتبلي قصة حياتك كاملة
- عفواً، لم تغفل سيادتكم عن أي جزء من تفاصيل حياتي، فماذا أكتب؟
- بلا فلسفة وحكي فاضي، عمول متل ما عبقلك
خرجت من مكتبه ليصحبني المساعد حتى باب الفرع. وبدأ بإملائي تعليمات المرحلة الأخيرة، فهمت أن عليّ أن آتي في اليوم التالي مصطحباً معي قصة حياتي مكتوبة، وأن أرفق معها بطاقة شحن للخليوي بما قيمته 700 ليرة سورية!!
عدت أدراجي إلى بلدي وأنا أفكر …
أجهزة الأمن التي أرعبت الشعب السوري تفتقر مقراتها إلى أبسط مكونات المؤسسة!!
أجهزة الأمن السياسي لا يهمها إلا أن تحصل على معلومات سخيفة عن حياة كل مواطن!!
عميد طويل عريض، يباع ويشترى ب700 ليرة سورية؟!!
بلد عريق له تاريخ مشرق وحضارات عظيمة، تحكمه مجموعة من الحمقى والمغفلين، موظف الاستقبال في السفارة … المسؤول الأمني هناك … المقدم … المساعد … العميد …
قفزت إلى ذهني عبارة قرأتها عند وصولي إلى أرض الوطن … "سوريا الله حاميها"، فعلاً … بلد يحكمه مجموعة من الحمقى والمغفلين والمرتشين، لا بد وأن الله يحميه، وإلا صار خراباً ودماراً …
انتظرت حتى أنهى اتصالاته، التفت إلي وسألني:
- ماذا تريد؟
- أريد أن أحصل على جواز سفر لكي أعود إلى سوريا
- وين أبوك؟
- عفواً، لكني تجاوزت سن التكليف القانونية وأصبحت مسؤولاً عن نفسي
- بدك تعلمنا شغلنا ولاه؟
- لا، العفو، لكن لماذا يجب عليه الحضور؟
- بدنا نشوف جوازو مزور ولاّ رسمي، من وين جاب جوازو؟
- في الحقيقة لا أعلم، من إحدى السفارات السورية
- يعني مو من عند الإخوان؟
- والدي لا علاقة له بالإخوان ولا بغيرهم
- ليش ما بينزل عسوريا؟
- لأنه يخاف من الملاحقة، لأن صديقه مطلوب.
- خليه يجي لعنّا نقعد سوا نشوف شو بدّو شو طلباتو
تسائلت في نفسي: كيف لي أن أنهي هذا الحوار السخيف؟ كيف سأقنعه بأني لا علاقة لي بوالدي حتى لو كان مجرماً أو مزوّراً أو أياً كان؟ هل أتبرأ من والدي؟
- أستاذ، والدي يرفض مراجعة السفارة، ويرفض تصليح وضعه، حاولت معه كثيراً
- اعطيني معلومات عن والدك وعنك وعن إخوتك وأخواتك وخلي أبوك يراجعنا
وبدأ يسرد علي سلسلة الأسئلة ذاتها التي أجبت عنها عشرات المرات. عن تاريخي وتاريخ عائلتي وأفراد عائلتي وتواريخهم، وممن تزوج من تزوج منهم، وأين يعيش كل فرد من أفراد العائلة. ثم توقف عن طرح الأسئلة وتابع كتابة تقريره المطوّل، ربما ملّ من سؤالي فقرر إكمال بقية المعلومات عني من تلقاء نفسه، وربما وجد تشابهاً بيني وبين عشرات آلاف المواطنين الآخرين، فتوقع أن مسيرة حياتي لا تختلف عنهم.
دفع بالتقرير إلى موظف لديه في المكتب المجاور طالباً منه تصويره، وطلب مني أن أنتظر. عندما طال انتظاري، فكرت بفكرة شجاعة، فكرت بأن أذهب لموظف التصوير كي أذكره بمعاملتي. تذرع بأنه مشغول، فكرت بفكرة أكثر شجاعة:
- بإمكاني أن أساعدك إن كنت مشغولاً
- بتعرف تصوّر؟
- نعم، أنا أعمل في التصوير
- صوّر أوراقك وإذا احتجت مساعدة اسألني
بدأت بتصوير "الإضبارة" وأنا أقرؤها صفحة صفحة، وأتساءل في نفسي: "أي جهاز أمن هذا الذي يسمح لي بالاطلاع على ملفي؟" وللوهلة الأولى خيّل إلي بأني أتعامل مع أكثر الأجهزة الأمنية شفافية في العالم. إلا أنني، وفي الصفحات الأخيرة من ملفي، اكتشفت أنني أتعامل مع أكثر الأجهزة الأمنية استهتاراً بالوطن والمواطن. تلك التي تفتري على المواطن في تقاريرها، وتقّوله مالم يقل، ومن ثم تسمح له بالاطلاع على تلك التقارير الكاذبة. أي أمن هذا وأي وطن؟
نزلت الدرج باتجاه بوابة السفارة الخارجية، وجدت إحدى الموظفات تناديني وتعرض مساعدتي. ربما ملت من كثرة زياراتي، ربما سئمت رؤيتي أمر من أمامها جيئة وذهاباً. أو ربما تؤدي دورها الذي طلب منها. أو ربما كانت "بنت حلال" وشعرت بمعاناة أخيها المواطن. المهم، أخبرتني بأن أقصر الطرق لزيارة بلدي هو طلب "زيارة مغترب"، وبدأت السير في هذا الطريق، وطال كالعادة، وكانت النتيجة إيجابية. جاء الرد من القطر بالموافقة، وأبلغت عن طريق الهاتف. مفاجئتان متتاليتان: بلدي يرغب باستقبالي، والسفارة المتخلفة تستخدم تكنولوجيا الاتصال الهاتفي.
تسلمت الموافقة الورقية، وكدت أطير من الفرح، إلا أن الموظفة "بنت الحلال" نبهتي إلى ضرورة قراءة الملاحظة المدونة في ذيل الورقة، والتي كانت تفيد بضرورة مراجعتي للفرع 274 فور دخولي القطر. صدمت للحظة، ثم قررت المتابعة مهما كلف الأمر.
* * *
تحقق حلمي أخيراً … سجدت على أرض وطني، مرغت شفتيّ بترابه الطاهر، سالت دموعي رغماً عني … يا إلهي، شكراً لك، لولا لطفك وعنايتك لما كنت هنا.
دخلت مبنى المطار، لم يكن هدفي أن ألاحظ مظاهر التخلف في البناء والخدمات، إلا أنها أبت إلا أن تظهر أمامي. لم أشأ أن أشاهد ذلك الذي فقد أمتعته، أو أولئك الذين اصطفوا في طوابير طويلة يمسك كل واحد منهم خمسون ليرة سورية أو ما يعادلها من عملات أجنبية لكي يدفعوها لموظف الجوازات، فوجئت بهذا العرف السائد، وفوجئت بغيره من مظاهر التخلف التي تملأ الأجواء. لم يهمني ذلك، كان كل همي منصباً تجاه المستقبل الباسم الذي ينتظرني في بلدي وبين أهلي.
في اليوم التالي، ركبت باص ال"هوب هوب" واتجهت إلى مركز المحافظة لمراجعة الفرع المذكور. جلست بجانب النافذة، وانطلقت بنا الحافلة. كم هو جميل بلدي رغم البؤس الذي يظهر على جدران بناياته وعلى جنبات شوارعه. كم هو جميل رغم الفقر الذي يكسوه، ورغم الظلم الذي يخيم في سمائه. تسير الحافلة، ويتوقف السائق عدة مرات ليمد يده من النافذة لرجل المرور مؤدياً الحق المتعارف عليه. تنطلق الحافلة خارج المدينة على الطريق الخارجي الذي يشبه الشوارع المعبدة نوعاً ما. تصل بنا الحافلة إلى مركز المحافظة، أتابع رحلة بحثي عن الفرع المشؤوم، أصل أخيراً…
دخلت إلى المبنى، رائحة العفن تفوح منه، عفن الجهل والظلم والتخلف. طالت رحلة بحثي ولحظات انتظاري في الفرع. وتتابعت علي عروض العناصر لمساعدتي مقابل مبلغ كذا وكذا … وبعد أن حصلت على عرضٍ مغرٍ ووافقت عليه، اصطحبني المساعد إلى مكتب المقدم:
- سيدي هذا عندو مراجعة
- فهّمتو نظامنا؟
- إي سيدي، ولكزني في خاصرتي قائلاً: حركلنا حالك أستاذ
فهمت حينها أن وقت الدفعة الأولى قد حان. أخرجت من جيبي مبلغ 200 ليرة سورية، بالغت في إخفائها، ومددت يدي باتجاهه متصنعاً المصافحة، خوفاً من أن يرانا أحد المسؤولين من لجان مكافحة الفساد التي شكلها السيد الرئيس. صرخ بي قائلاً:
- ليش مستحي ولا؟ شو إنت عم تدفع لشرمـ…؟ الكل هون بيدفع ليمشي أموره
لم أفاجأ بهذا المستوى من الألفاظ، فطبيعة المكان، وهيئة السيد المقدم، توحي للزائر بمستوى أدنى من ذلك بكثير. بعدها شرح لي المساعد بقية (الأنظمة) المعمول بها داخل المركز، وتسلسل (الحرامية) الذي سأمر خلاله.
اصطحبني مجدداً إلى المكتب التالي، مررت أمام غرفة الإضبارات، ألقيت نظرة من بعيد لأجد غرفة قد ملئت أوراقاً وملفات تقدّر بعشرات الأطنان. يا إلهي! لماذا لا يستخدمون الكمبيوتر ليخزنوا هذه المعلومات على قرص صغير لا يتجاوز حجمه حجم الكف ولا يزيد وزنه عن 200 جرام؟ اكتشفت لاحقاً بأن الأمر يتعدى مجرد الحاجة لجهاز حاسوب بكثير. اكتشتف أن ذلك الفرع خالٍ تماماً من أي مظهر من مظاهر التكنولوجيا الحديثة، وأقصد بالحديثة تلك التي ظهرت خلال العشرين عاماً الماضية.
وصلت أخيراً إلى مكتب العميد، دخلت إليه وإذا به نسخة مكررة من ذلك المسؤول الأمني الذي قابلته في السفارة، ونسخة مطورة كذلك من المقدم الذي قابلته للتو. يجلس خلف مكتب متهالك، يضع عليه مجموعة من الملفات التي تكاد أن تغطي سيادته، مجموعة من الأقلام، وعلبة من المصحح ذي الريشة.
وقفت عند الباب مذهولاً بما رأيت، ينطلق صوت المساعد من ورائي:
- سيدي هذا عندو مراجعة
- أهلا وسهلا، تعال قعود
تقدمت وجلست على كرسي متهالك آخر، ونظرت إلى سيادته لأدرك عن قرب ملامح الحمق التي لم أشاهدها في مخلوق سابقاً. قام بجمع بعض الأوراق الفارغة، طلب من المساعد إحضار إضبارتي من الإرشيف، وبدأ باستجوابي.
ما إن طرح سؤاله الأول، حتى أيقنت بأنني سأستمع لنفس الاسطوانة من الأسئلة التي سمعتها مراراً وتكراراً أثناء مراجعتي لسفارة بلدي. أسئلة تتعلق بكل ما يخصني، بدءاً من مقاس حذائي مروراً بطول قامتي، أصدقاء طفولتي، أسماء إخوتي وأخواتي، أخوالي وأبناء عمومتي.
ثم انتقل إلى أقاربي ومعارفي المغتربين، سألني عنهم فرداً فرداً، فوجئ عندما علم أنني وأقراني جميعاً أكملنا التعليم الجامعي، نظر إليّ مستغرباً:
- ولو كلكن دارسين جامعة؟!
- نعم، وبأعلى التخصصات
- كمان بنات ال….. صرن يدرسن جامعة؟!
- نعم، وكثير منهن أكملن التعليم العالي
- وشو يعني تعليم عالي؟!
- يعني ماجستير ودكتوراه
- !!!
وما إن انتهى من سرد اسطوانة الأسئلة، حتى كان المساعد قد نجح –بقدرة قادر- على إيجاد إضبارتي بين تلال الملفات التي شاهدتها قبل قليل. فتح الملف، وبدأ يقلب أوراقه مستغرباً، ثم نظر إليّ بشيء من الحقد قائلاً:
- ولاه هذا أبوك مجرم كبير
- لا أدري، أنتم أعرف
- كيف مابتعرف ولاه؟ شو عم تجدبها علينا؟!
- لا العفو، لا أحد يمتلك الجرأة للعب معكم …
- روح هلق وارجع بكرة بعد ما تكتبلي قصة حياتك كاملة
- عفواً، لم تغفل سيادتكم عن أي جزء من تفاصيل حياتي، فماذا أكتب؟
- بلا فلسفة وحكي فاضي، عمول متل ما عبقلك
خرجت من مكتبه ليصحبني المساعد حتى باب الفرع. وبدأ بإملائي تعليمات المرحلة الأخيرة، فهمت أن عليّ أن آتي في اليوم التالي مصطحباً معي قصة حياتي مكتوبة، وأن أرفق معها بطاقة شحن للخليوي بما قيمته 700 ليرة سورية!!
عدت أدراجي إلى بلدي وأنا أفكر …
أجهزة الأمن التي أرعبت الشعب السوري تفتقر مقراتها إلى أبسط مكونات المؤسسة!!
أجهزة الأمن السياسي لا يهمها إلا أن تحصل على معلومات سخيفة عن حياة كل مواطن!!
عميد طويل عريض، يباع ويشترى ب700 ليرة سورية؟!!
بلد عريق له تاريخ مشرق وحضارات عظيمة، تحكمه مجموعة من الحمقى والمغفلين، موظف الاستقبال في السفارة … المسؤول الأمني هناك … المقدم … المساعد … العميد …
قفزت إلى ذهني عبارة قرأتها عند وصولي إلى أرض الوطن … "سوريا الله حاميها"، فعلاً … بلد يحكمه مجموعة من الحمقى والمغفلين والمرتشين، لا بد وأن الله يحميه، وإلا صار خراباً ودماراً …