الجنود الأحرار اختبار الوفاء
مرة أخرى قطعني قاطعٌ عن مقالات الحرب التي كنت منهمكاً بكتابتها، فبعد نشر مقالة الأمس عن الجيش الحر تلقيت عدداً من الرسائل يسألني فيها إخوةٌ كرام: كيف نستطيع أن ندعم هذا الجيش؟ هل نرسل المال إلى الحسابات التي أعلن عنها في صفحته الرسمية؟ هل من طرق أخرى للمساعدة؟ ماذا نستطيع أن نفعل وبأي شيء يمكننا المشاركة في الجهاد؟
إخوة آخرون لم يسألوني ولكنْ قَصّوا عليّ بعض القصص المحزنة عن معاناة طائفة من الجنود المنشقين الأحرار، فلما قرأت ما قرأت عزفَت نفسي عن تتمة ما كنت فيه ولبثت هنيهة أفكر مهموماً، ثم قررت أن أصنع الشيء الوحيد الذي أستطيع أن أصنعه، أكتب لكم وأترككم لتتصرفوا بما يفتح به الله عليكم وبما تستطيعون.
يا أيها السادة: إن سوريا اليوم صارت أرض البطولات والمكرمات. إني أسمع الناس يتحدثون عن أهلها بخشوع كما يتحدثون عن أبطال الأساطير وأصحاب الكرامات، وأي كرامة أعظم من صبركم وثباتكم هذه الشهورَ الطوال في وجه مجرم العصر وطاغية الزمان الذي ابتُليت به بلاد الشام؟ لكن البطولة درجات والأبطال طبقات، وفي أعلى درجاتها وطبقاتها جنودُنا الأحرار.
إن كل حر شريف خرج في مظاهرة في أي بقعة في سوريا هو بطل مقدام وليث ضرغام، فإنه يعلم أنه ربما خرج ماشياً على رجليه ليعود محمولاً على الأعناق، لكنه يعلم أن الذين يكسبون الشهادة -أكرِمْ بها من مصير- آحادٌ من ألوف المتظاهرين. أما الجندي الذي يتمرد على أوامر رؤسائه ويرفض أن يقتل الأبرياء فإنه يعلم أنه مقتول آجلاً أو عاجلاً، فإما أن يقتله المجرمون على الفور أو ينجو إلى حين، وهو إذا نجا من القتل المعجَّل صار شهيداً يمشي على رجلين، لا يدري في أي ساعة يحين أجله وترتقي روحه إلى بارئها، لأنه إن عاد إلى أهله تعقّبوه في دار أهله، وإن هام على وجهه أوشكوا أن يدركوه فيُرْدوه، وإن وصل إلى أصحابه من الجنود الأحرار والتحق بهم صار مشروع شهيد، لا يدري إذا أصبح أيدركه المساء وإذا أمسى أيدركه الصباح.
هؤلاء أعظم الرجال رجولة وأكثر الأبطال بطولة، باعوا أنفسهم لله واستقبلوا الموت ليدفعوا عن الأبرياء الموت، فكيف نكافئهم وبأي شيء نردّ الجميل؟ إنّ منهم من يصل إلى إخوانه من أحرار الجيش الحر، فإما أن يلتحق بهم وينضمّ إليهم أو يساعدوه في الوصول إلى الأمان. هؤلاء السعداء منهم، لكنهم ليسوا كلهم كذلك، فكثيرون لا يصلون إلى إخوانهم ولا يصل إخوانهم إليهم، فيتشردون في العراء.
منذ أيام قرأت رسالة مؤثّرة كُتبت بمداد الصدق والإخلاص، لعلكم اطّلعتم عليها من قبل أن أنقلها إليكم. قال كاتبها (أنقلها عنه بالحرف): "إخوتي الثوار، هل تعلمون حال أفراد الجيش السوري الحر؟ والله لم نكن لهم أوفياء. لقد دعونا الجنود والضباط إلى الانشقاق والدفاع عن الشعب، وعندما انشقوا تجاهلناهم وتناسيناهم. قبل أسبوع مررت في أحد البساتين بريف دمشق فوجدت عدداً قليلاً من الجنود المنشقين. أقسم بالله إن وضعهم يبكي العين ويدمي القلب. هل فكرتم بهم كيف ينامون؟ ماذا يأكلون؟ كيف يتحركون؟ ما شاهدته معهم هو فرشات إسفنج خفيفة وبعض الأغطية موزعة تحت الأشجار. هل هذا ما سوف يقيهم برد الشتاء؟ يا من تقودون هذه الثورة، اتقوا الله في الجيش الحر، اتقوا الله بمن هو معلق بين السماء والأرض يدافع عنا منتظراً مصيراً لا يعلمه، إن وجدوه قُتل، وإن عاد إلى بيته أُعدم، وإن بقي بدون دعمنا ومساندتنا مات من البرد والجوع وتحطمت معنوياته. اتقوا الله في هذا البطل الذي ضحّى بكل شيء لينصر الثورة".
أرأيتم ما يقوله صاحب الرسالة؟ "إنْ بقي بدون دعمنا ومساندتنا مات من البرد والجوع". هل تظنون أنه يبالغ أو يتخيل؟ اليوم وصلتني رسالة من أخ كريم ينقل فيها عن أخت دمشقية فاضلة أن ثلاثة من شرفاء الجنود الأحرار المنشقّين وُجدوا في البرية أمواتاً، قتلهم البرد والجوع.
لا، ما قتلهم الجوع ولا قتلهم البرد يا أختاه، بل نحن الذين قتلناهم! قتلناهم لمّا تخلينا عنهم وتركناهم يواجهون المحنة فُرادى، قتلناهم حين نسيناهم ولم نمدّ إليهم يدَ العون والنجدة، قتلناهم لأننا سلمناهم إلى برد البراري ووحشتها وأوينا إلى دفء البيوت وأُنسها آمنين. عليكم رحمة الله يا أيها الشهداء الكرام، وعفوك اللهمّ، اعفُ عنا فإنا ما قصّرنا عن علم ولا تخلينا عن مقدرة، ولكنْ أبعدَنا الجهل وأقعدنا العجز، وإنا وإياهم في الضرّ سواء.
* * *
يا أهلنا في سوريا: إن الجنود المنشقين أمانةٌ في أعناقكم؛ ابحثوا عنهم، ادعموهم، شجعوهم. لا والله لسنا أهل بِرّ ووفاء لو تركناهم يواجهون وحدهم الجوع والبرد والخوف والمرض. وفّروا لهم المأوى -إن استطعتم- ولا تتركوهم ينامون في العراء، وفّروا لمن مرض منهم العلاجَ والدواء، ولمن بَرَد اللباس والكساء، ولمن جاع الطعام والغذاء. وإن استطعتم أن توصلوهم إلى أهليهم أو إلى دار أمان فافعلوا يا أيها الكرام.
أما أنتم يا أحرار الخارج والشتات فاعلموا أنكم مسؤولون. إنكم قد حُرمتم أن تشاركوا في الثورة بأنفسكم، لكنكم لم تُحرَموا أن تشاركوا فيها بأموالكم. إن القوم هناك يجاهدون -سلماً وحرباً- فيُقتَلون ويُؤسَرون ويعذَّبون ويشرَّدون، فشاركوهم بما تستطيعون. لا كلمةَ عندي أكتبها لكم بعد كلمة الله، إنه {اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة}. الله مُشتَرٍ يا أيها المؤمنون، والسلعة الجنة، فأين البائعون؟
الجيش الحر بحاجة إلى دعمكم وإلى أموالكم، إن أبطاله يجاهدون بالنفس فجاهدوا بالمال، وها هي حساباتهم مُعلَنة في صفحاتهم، فلا عذر بعد اليوم لقادر، وما عاد يجوز أن تصرفوا الأموال في فضول الأحوال وشرفاء الرجال يجودون بأنفسهم في ساحات النزال.
يا أيها الناس: إننا أمام امتحان الوفاء، فهل سننجح في امتحان الوفاء؟
====
23/11/2011
الجنود الأحرار: اختبار الوفاء
مجاهد مأمون ديرانية
مرة أخرى قطعني قاطعٌ عن مقالات الحرب التي كنت منهمكاً بكتابتها، فبعد نشر مقالة الأمس عن الجيش الحر تلقيت عدداً من الرسائل يسألني فيها إخوةٌ كرام: كيف نستطيع أن ندعم هذا الجيش؟ هل نرسل المال إلى الحسابات التي أعلن عنها في صفحته الرسمية؟ هل من طرق أخرى للمساعدة؟ ماذا نستطيع أن نفعل وبأي شيء يمكننا المشاركة في الجهاد؟
إخوة آخرون لم يسألوني ولكنْ قَصّوا عليّ بعض القصص المحزنة عن معاناة طائفة من الجنود المنشقين الأحرار، فلما قرأت ما قرأت عزفَت نفسي عن تتمة ما كنت فيه ولبثت هنيهة أفكر مهموماً، ثم قررت أن أصنع الشيء الوحيد الذي أستطيع أن أصنعه، أكتب لكم وأترككم لتتصرفوا بما يفتح به الله عليكم وبما تستطيعون.
يا أيها السادة: إن سوريا اليوم صارت أرض البطولات والمكرمات. إني أسمع الناس يتحدثون عن أهلها بخشوع كما يتحدثون عن أبطال الأساطير وأصحاب الكرامات، وأي كرامة أعظم من صبركم وثباتكم هذه الشهورَ الطوال في وجه مجرم العصر وطاغية الزمان الذي ابتُليت به بلاد الشام؟ لكن البطولة درجات والأبطال طبقات، وفي أعلى درجاتها وطبقاتها جنودُنا الأحرار.
إن كل حر شريف خرج في مظاهرة في أي بقعة في سوريا هو بطل مقدام وليث ضرغام، فإنه يعلم أنه ربما خرج ماشياً على رجليه ليعود محمولاً على الأعناق، لكنه يعلم أن الذين يكسبون الشهادة -أكرِمْ بها من مصير- آحادٌ من ألوف المتظاهرين. أما الجندي الذي يتمرد على أوامر رؤسائه ويرفض أن يقتل الأبرياء فإنه يعلم أنه مقتول آجلاً أو عاجلاً، فإما أن يقتله المجرمون على الفور أو ينجو إلى حين، وهو إذا نجا من القتل المعجَّل صار شهيداً يمشي على رجلين، لا يدري في أي ساعة يحين أجله وترتقي روحه إلى بارئها، لأنه إن عاد إلى أهله تعقّبوه في دار أهله، وإن هام على وجهه أوشكوا أن يدركوه فيُرْدوه، وإن وصل إلى أصحابه من الجنود الأحرار والتحق بهم صار مشروع شهيد، لا يدري إذا أصبح أيدركه المساء وإذا أمسى أيدركه الصباح.
هؤلاء أعظم الرجال رجولة وأكثر الأبطال بطولة، باعوا أنفسهم لله واستقبلوا الموت ليدفعوا عن الأبرياء الموت، فكيف نكافئهم وبأي شيء نردّ الجميل؟ إنّ منهم من يصل إلى إخوانه من أحرار الجيش الحر، فإما أن يلتحق بهم وينضمّ إليهم أو يساعدوه في الوصول إلى الأمان. هؤلاء السعداء منهم، لكنهم ليسوا كلهم كذلك، فكثيرون لا يصلون إلى إخوانهم ولا يصل إخوانهم إليهم، فيتشردون في العراء.
منذ أيام قرأت رسالة مؤثّرة كُتبت بمداد الصدق والإخلاص، لعلكم اطّلعتم عليها من قبل أن أنقلها إليكم. قال كاتبها (أنقلها عنه بالحرف): "إخوتي الثوار، هل تعلمون حال أفراد الجيش السوري الحر؟ والله لم نكن لهم أوفياء. لقد دعونا الجنود والضباط إلى الانشقاق والدفاع عن الشعب، وعندما انشقوا تجاهلناهم وتناسيناهم. قبل أسبوع مررت في أحد البساتين بريف دمشق فوجدت عدداً قليلاً من الجنود المنشقين. أقسم بالله إن وضعهم يبكي العين ويدمي القلب. هل فكرتم بهم كيف ينامون؟ ماذا يأكلون؟ كيف يتحركون؟ ما شاهدته معهم هو فرشات إسفنج خفيفة وبعض الأغطية موزعة تحت الأشجار. هل هذا ما سوف يقيهم برد الشتاء؟ يا من تقودون هذه الثورة، اتقوا الله في الجيش الحر، اتقوا الله بمن هو معلق بين السماء والأرض يدافع عنا منتظراً مصيراً لا يعلمه، إن وجدوه قُتل، وإن عاد إلى بيته أُعدم، وإن بقي بدون دعمنا ومساندتنا مات من البرد والجوع وتحطمت معنوياته. اتقوا الله في هذا البطل الذي ضحّى بكل شيء لينصر الثورة".
أرأيتم ما يقوله صاحب الرسالة؟ "إنْ بقي بدون دعمنا ومساندتنا مات من البرد والجوع". هل تظنون أنه يبالغ أو يتخيل؟ اليوم وصلتني رسالة من أخ كريم ينقل فيها عن أخت دمشقية فاضلة أن ثلاثة من شرفاء الجنود الأحرار المنشقّين وُجدوا في البرية أمواتاً، قتلهم البرد والجوع.
لا، ما قتلهم الجوع ولا قتلهم البرد يا أختاه، بل نحن الذين قتلناهم! قتلناهم لمّا تخلينا عنهم وتركناهم يواجهون المحنة فُرادى، قتلناهم حين نسيناهم ولم نمدّ إليهم يدَ العون والنجدة، قتلناهم لأننا سلمناهم إلى برد البراري ووحشتها وأوينا إلى دفء البيوت وأُنسها آمنين. عليكم رحمة الله يا أيها الشهداء الكرام، وعفوك اللهمّ، اعفُ عنا فإنا ما قصّرنا عن علم ولا تخلينا عن مقدرة، ولكنْ أبعدَنا الجهل وأقعدنا العجز، وإنا وإياهم في الضرّ سواء.
* * *
يا أهلنا في سوريا: إن الجنود المنشقين أمانةٌ في أعناقكم؛ ابحثوا عنهم، ادعموهم، شجعوهم. لا والله لسنا أهل بِرّ ووفاء لو تركناهم يواجهون وحدهم الجوع والبرد والخوف والمرض. وفّروا لهم المأوى -إن استطعتم- ولا تتركوهم ينامون في العراء، وفّروا لمن مرض منهم العلاجَ والدواء، ولمن بَرَد اللباس والكساء، ولمن جاع الطعام والغذاء. وإن استطعتم أن توصلوهم إلى أهليهم أو إلى دار أمان فافعلوا يا أيها الكرام.
أما أنتم يا أحرار الخارج والشتات فاعلموا أنكم مسؤولون. إنكم قد حُرمتم أن تشاركوا في الثورة بأنفسكم، لكنكم لم تُحرَموا أن تشاركوا فيها بأموالكم. إن القوم هناك يجاهدون -سلماً وحرباً- فيُقتَلون ويُؤسَرون ويعذَّبون ويشرَّدون، فشاركوهم بما تستطيعون. لا كلمةَ عندي أكتبها لكم بعد كلمة الله، إنه {اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة}. الله مُشتَرٍ يا أيها المؤمنون، والسلعة الجنة، فأين البائعون؟
الجيش الحر بحاجة إلى دعمكم وإلى أموالكم، إن أبطاله يجاهدون بالنفس فجاهدوا بالمال، وها هي حساباتهم مُعلَنة في صفحاتهم، فلا عذر بعد اليوم لقادر، وما عاد يجوز أن تصرفوا الأموال في فضول الأحوال وشرفاء الرجال يجودون بأنفسهم في ساحات النزال.
يا أيها الناس: إننا أمام امتحان الوفاء، فهل سننجح في امتحان الوفاء؟
====
23/11/2011
الجنود الأحرار: اختبار الوفاء
مجاهد مأمون ديرانية