الجيش الحر: “نافذة الأمل” وخط الثورة الأحمر
أعترف ابتداءً بأني أقحمت هذه المقالة في سياق “مقالات الحرب” بلا سابق تخطيط، فقد كنت منهمكاً بكتابة مقالة عن “المناطق الآمنة” حينما قرأت خبراً موجزاً يقول إن بعض رموز المعارضة -من المجلس الوطني ومن هيئة التنسيق- طلبوا من وزير الخارجية البريطاني أن يضغط على الأتراك من أجل وقف عمليات الجيش السوري الحر. فتركت ما كنت فيه وقررت كتابة هذه الكلمات.
تلاحظون أني لم أذكر أي اسم لسببين، أولهما أني لم أتوثق من صحة الخبر ولم أسمعه ممّن نُقل عنهم مباشرة، ومن ثم فإنني أفترض أنه خبر يحتمل النفي كما يحتمل الإثبات، وثانيهما أن تعليقي هو على الموضوع بغض النظر عمّن يرتبط به من أشخاص وأسماء.
إذا صحّ هذا الخبر فإنه جريمة في حق الثورة لأنه يحرمها من أهم أداة امتلكتها حتى الآن بفضل الله، وباختصار وبكلمات قليلة أقول: إن الجيش الحر هو الخط الأحمر الذي لن تقبل الثورة أن يقترب منه أحد، وإنه الكيان الذي لن يفرّط فيه الثوّار ولن يتخلّوا عنه بإذن الله، لأنه أهم ما يملكونه وأعظم ثمرات جهادهم السلمي حتى اليوم.
إن جيشنا الحر هو أقوى ضمان لعدم عسكرة الثورة، وهو أقوى ضمان لعدم سحق الثورة أو توقفها، وهو أهم ضمان لعدم السقوط في هاوية الحرب الأهلية، وأهم ضمان ضد التدخل الأجنبي، وهو الأمل الأخير -بعد الله وقَدَر الله وقدرة الله- لانتصار الثورة لو أخفقت كل الضغوط الشعبية السلمية في إسقاط النظام. هذا هو الموجز، فمن اكتفى به فلا يقرأَنّ ما بقي من المقالة، ومن أحب التفصيل فها هي التفاصيل:
* * *
أنا من أشد المدافعين عن سلمية ثورتنا العظيمة كما تعلمون، وقد بذلت كل ما أملك من جهد وطاقة خلال الشهور الماضية للتحذير من عسكرة الثورة، ولكني إنسان أملك بين أضلعي قلباً يحس ويتألم، بل أزيدكم أنني أكثر حساسية من أمثالي من الرجال وأنني يمكن أن أبكي من قراءة قصة خيالية محزنة، فما بالكم بالقصص الحقيقية التي أقرأ تفصيلاتها وأشاهد صورها كل يوم؟ هل تدركون أيَّ جهد كنت أبذله لأقنع نفسي وأحاول إقناع غيري بأنْ لا نخرج إلى الشوارع بما تيسر من سلاح، بل حتى بسكاكين المطابخ، لنحوّل الثورة السلمية إلى ثورة مسلحة؟ لكني كنت أتصور أي ثمن فادح سيدفعه شعبنا الأعزل فألجم نفسي وأردّ قلمي إلى جرابه، وأعود فأكرر المعزوفة التي مَلّها مني الناس: لا تسلّحوا الثورة (أي لا تجعلوا السلاح هو أداة التغيير بدلاً من الضغط السلمي)، لا تحملوا السلاح إلا دفاعاً عن النفس، لا تستعملوا السلاح -دفاعاً عن النفس- إلا إذا غلب على ظنكم أن استعماله أقل ضرراً من عدم استعماله.
حتى لقد التقط أحد الإخوة المتحمسين -عفا الله عنه- الجملة الأخيرة وأسّس عليها مقالة سخر فيها مني ومن “المفاضلة بين الأضرار واختيار أخف الضررين عند الدفاع عن النفس بالسلاح” ونشرها في الإنترنت طولاً وعرضاً، ثم دارت الأيام وأعلن الجيش الحر (وهو الجهة التي تحمل السلاح وتحترف القتال) أعلن هذا المبدأ مرتين، حينما انسحب من الرستن أولاً ثم من بابا عمرو ثانياً، ولم ينسحب جبناً ولا خوفاً من الموت، فإن أبطال الجيش باعوا لله أنفسَهم وتحولوا إلى مشاريع شهداء من يوم انشقوا على جيش الاحتلال الأسدي، أرجو الله أن يصوّب نيّاتهم ويثبت قلوبهم ويسدّد رميهم. لا، إنهم لم ينسحبوا في المرتين جبناً أو ضناً بأنفسهم، بل انسحبوا لتجنيب المدنيين القتل والدمار ولإنقاذهم من خسائر كبيرة كانوا سيصابون بها لو بقيت كتائب الجيش الحر في المدينة تدافع عنهم، فآثروا الانسحاب على قاعدة اختيار أخف الضررين، وأعلنوا ذلك في بياناتهم المصورة التي برروا فيها سبب الانسحابَين، بارك فيهم الله.
حسناً، لقد ثابرت على الدعوة إلى السلمية وقلبي ينزف ألماً مما أشاهده من قتل واستباحة وتنكيل وتعذيب، وكنت أدعو وآمُل أن ينجح الضغط السلمي أخيراً في إنهاك النظام وتفتيته، ولكن الشهور مضت والناس يعانون والنظام يقاوم، وأصدقكم القول إني كدت أستسلم وأسلّم بأن السلمية لن تحقق شيئاً في مئة سنة! ثم شاء الله أن يأتي بالحل من حيث لم نحتسب، من الجيش الذي هو أقوى أجهزة الدولة، لا من مؤسسات الدولة المدنية الأضعف التي توقعنا تفتّتَها وانهيارها أولاً.
حينما كتبت عن الجيش منذ ستة أشهر ونيّف -بعد الحملة على درعا- بلغ أقصى تفاؤلي أني توقعت تمرد بعض وحدات الجيش بسبب ما يشاهده جنودنا الأحرار من بطش الأجهزة الأمنية وظلمها وعدوانها على المدنيين، وقلت: لعل حوادث التمرد الفردية أولاً ثم حوادث الانشقاق الجماعية تدفع النظام إلى الخوف من بقاء الجيش في خط المواجهة الأول فيسحبه ويعيده إلى ثكناته، وبذلك يخف الضغط على المدن التي لن تكفي أعدادُ مجرمي عصابات الأمن لاحتلالها، فتعود إلى التظاهر والضغط على النظام. في الحقيقة لم يخطر ببالي أن يُخرج الله من الجيش الأسدي جيشاً حراً يحمل سلاحه وينظم صفوفه للدفاع عن الثورة وعن الشعب الأعزل. وما ضرّ أن يخطر ببالي أو لا يخطر؟ المهم أن هذا الجيش جاء هبةً من الله، ومنذ تشكلت كتائبه الأولى طرت به فرحاً ورأيته نافذة الأمل في جدار الجمود المحبط، واعتبرتُ أن دعمه من أوجب الواجبات وأن مهامّه من أهم المهمات؛ فأما دعمه فمطلوبٌ من كل من يستطيع الدعم، جماهيرياً ونفسياً برفع اسمه والترحيب به في المظاهرات، وعملياً بتأمين المأوى والفرار الآمن للجنود المنشقين، وبالمال إن لزم المال، واجباً على من يملك المال في الداخل أو في الخارج.
هذه واجباتنا تجاه الجيش الحر وجنوده الأبطال، وغيرها مما يمكن أن يطلبوه منا مما يحتاجون إليه ونستطيع تقديمه. أما واجبه تجاه الثورة فهو حمايتها والدفاع عن جمهورها الأعزل، فما دام الجمهور رفض أن يحمل السلاح، وما دامت حماية الشعب من أخصّ خصوصيات الجيش، وما دام هذا الجيش الحر هو جيشنا الوطني لا جيش لنا سواه (بعدما استولت عصابة الأسد على جيش البلاد الأصلي) فلم يبقَ بدٌّ من أن يقوم الجيش الحر بحماية البلاد والعباد، بحماية المظاهرات والدفاع عن الأحياء السكنية، وباستهداف مواقع العدو ومراكزه الأمنية، وبملاحقة وقتل مجرمي الشبيحة والمخابرات الذين يقتلون الأبرياء.
* * *
عندما يقوم الجيش الحر بهذه الواجبات فإنه يحول دون عسكرة الثورة، ويحميها من التصفية والفناء، ويحمي البلاد من الحرب الأهلية، ويغلق الباب أمام التدخل العسكري الأجنبي المباشر، ويقود الثورة إلى النصر بإذن الله. قد تقولون: وكيف يصنع ذلك كله؟ وهذا هو الجواب (وسامحوني على الإطالة):
(1) الجيش الحر ضمان ضد عسكرة الثورة
الضغط الفظيع على المدنيين العزّل من شأنه أن يوصلهم إلى الانفجار، فإلى كم يمكن أن يصبر الناس على الاعتقال والتعذيب والقتل والخطف والاغتصاب والنهب والتخريب ولا يحملون السلاح ويبدؤون باستهداف مراكز ورموز النظام بدلاً من الاقتصار على المظاهرات السلمية؟ أنا لو كنت محلهم إلى كم أصبر؟ إني لأعلم أن التسليح سيزيد المعاناة والقتل والتضحيات، لكن من المؤكد أن للصبر حدوداً وأن دفع العاطفة قد يكون أقوى من لجم العقل، ومن ثَمّ فلا بد أن أتخلى عن هداية العقل ذات يوم وأحمل سلاحي وأندفع به قاتلاً أو مقتولاً وليكن ما يكون. لكن هذه المشاعر الفوّارة ستسكن وستهدأ الخواطر عندما يبدأ جيشٌ حقيقي بالدفاع عن المدنيين العزّل من ضحايا إجرام عصابات الأسد. إنه جيش وطني مخلص محترف، قد يكون صغيراً قليلاً ولكنه في كل يوم إلى زيادة وقوة بحمد الله، ولعله يفتح باب التطوع إذا سمحت الظروف عما قريب فيلتحق به كل من بلغت به الحماسة أن يحمل السلاح، وفي الحالتين فإنه صِمام أمان من عسكرة الثورة ذاتها: (أ) إما باستيعاب الراغبين بالانتقال من الجهاد السلمي إلى الجهاد العسكري، وكلاهما بابا جهاد مبارك مشروع بإذن الله، (ب) وإما بتنفيس غيظ المكلومين وتهدئة خواطرهم بحيث يحكّمون المصلحة ويتخلّون عن الاندفاع إلى تسليح الثورة.
الخبر الجيد هو أن الجيش الحر يؤكد هذا الاتجاه عملياً، فقد أعلن قادته وضباطه الكبار مراراً رفضهم عسكرةَ الثورة وتعهدهم بالدفاع عنها وعن المدنيين العزّل، وآخر ما سمعته منهم بهذا الخصوص كان بعبارات واضحة لا تحتمل اللبس على لسان قائد الجيش الحر العقيد رياض الأسعد في لقائه مع قناة الجزيرة قبل يومين. وبدَوري فإنني أشكر ضباط وجنود جيشنا الحر الأبيّ الكريم على الأمرين؛ على إصرارهم على عدم عسكرة الثورة ومقاومتهم لهذا الاتجاه أولاً، وثانياً على ما يبذلونه من جهد كبير ما يزال يتزايد يوماً بعد يوم في حماية المدن والمدنيين وفي استهداف وضرب أهداف نظام الاحتلال الأسدي من أشخاص ومنشآت، بارك الله فيهم ووفقهم إلى المزيد.
(2) الجيش الحر ضمان لبقاء الثورة واستمرارها
ربما وصل اليأس بالثوار أن يتراجعوا ويتوقفوا مع شدة الحملة وقسوتها، ذلك يومَ لم يقف معهم أحد، أمَا وقد علموا أن ثمة من يدافع عنهم وصاروا يسمعون عن عمليات تصيب عصابات النظام ويشاهدون ذلك بأعينهم فإن اليأس صار أبعدَ عن قلوبهم التي أينع فيها الأمل، وازدادوا ثباتاً وإصراراً على الاستمرار في ثورتهم. من تتبع صفحات الجيش الحر (الصفحة الرئيسية والصفحات الفرعية للكتائب) سوف تدهشه كثرة العمليات وانتشارها الواسع في جميع أنحاء سوريا، حتى في دمشق وحلب. هذه العمليات لا توفر حالياً الحمايةَ الكاملة للثورة، بل ولا نصفَ الحماية المطلوبة ولا ربعَها، ولكنها لم تَنقص قط من يوم بدأت بفضل الله، وكلما مر يوم جديد ازدادت قوةً وتأثيراً.
من أهم نتائج هذه العمليات أنها نقلت الخوف إلى الطرف الآخر، فقد عاش الثوار في خوف وقلق وعاش المجرمون في أمان مطلق حتى بدأ الجيش الحر بضربهم، فاطمأن الثوار بعض الاطمئنان وانتقل قلقهم وخوفهم إلى مجرمي الشبيحة والمخابرات الذين يزيد خوفهم وقلقهم في كل يوم بحمد الله، وهذه من أعظم ثمرات عمليات الجيش الحر، وقد ساعدت على ترويع المجرمين ولجمهم وتخفيف شرّهم، فحتى لو لم يتوقف المجرمون النظاميون (عناصر المخابرات) عن المشاركة في الحرب ضد الشعب فإن المجرمين المتطوعين (من الشبيحة ) بدؤوا ينسحبون من الحرب حينما وجدوا أن الكلفة أعلى من العائدات، وقد بدأت تتكدس ثلاجات المستشفيات الحكومية والعسكرية بمئات من جثث أولئك القَتَلة دون أن يجرؤ النظام على إعلان قتلهم وتسليمهم إلى أهاليهم، وفي بعض الحالات قيل إن ضباط التجنيد الذين يجوبون القرى العلوية لتجنيد متطوعين جدد قد قوبلوا بعنف وطُردوا طرداً مُهيناً من بعض القرى بسبب استفحال القتل في شبان القرية الذين سبق تجنيدهم.
(3) الجيش الحر ضمان ضد الحرب الأهلية
اسمحوا لي أولاً أن أعلق على ما رددته جهات عدة مؤخراً عن خطر الحرب الأهلية في سوريا، بما فيها أصوات من داخل المجلس الوطني. اطمئنوا يا أيها السادة، بإذن الله لن تنزلق سوريا اليوم في هاوية الحرب الأهلية بعدما صمدت دونها مئتَي يوم. نعم، النظام تمنّى وحاول وبذل غاية الجهد لدفع البلاد إلى الحرب الأهلية، ولكنه فشل حتى اليوم فشلاً ذريعاً وسوف يستمر فشله بإذن الله. لكن دعونا نعرّف المصطلح: هل الحرب التي توشك أن تبدأ بين جيش سوريا الحر وجيش الاحتلال الأسدي هي حرب أهلية؟ بتعريفي الخاص ليست كذلك، بل هي حرب تحرير. ربما عدت إلى هذا الموضوع في مقالة لاحقة إن شاء الله، أما الآن فيكفي أن أقول إن الحرب الأهلية المقصودة هي الحرب بين فئات أهلية بينها نوع من التناقض، مناطق أو قبائل أو طوائف، وليس بين جيش احتلال وجيش حماية وتحرير.
في حالة وجود قوة واحدة، وهي قوة النظام، فإن تجييش مجموعات طائشة وحاقدة من الطائفة ودفعها إلى مهاجمة السنّة في مدنهم وقراهم لن يكون أمراً صعباً، أو أنه ليس مستبعَداً على الأقل، لكن هذه المهمة ستصبح صعبة جداً مع وجود قوة حماية نظامية من شأنها أن تتصدى للعصابات الطائفية وتقضي عليها، وسوف تُحبط -بذلك- مخططات النظام الخبيثة للدفع إلى الحرب الأهلية الطائفية.
(4) الجيش الحر ضمان ضد التدخل الأجنبي
لم نعرف بعد تفصيلات الحملة المتوقعة على سوريا لإسقاط نظام الأسد المجرم، لكن يبدو أن الحظر الجوي والمنطقة الآمنة والضربات الجوية ستكون من مرتكزات الحملة الرئيسية، بغضّ النظر عن تفصيلاتها وطرق تنفيذها التي سأناقشها في مقالات لاحقة بإذن الله. مهما يكن الأمر فإن الحرب لا يمكن حسمها إلا على الأرض، هذه قاعدةٌ يعرفها كل العسكريين والأكاديميين، ولم يعرف التاريخ العسكري قط نصراً تحقق من الجو فقط. الحرب تحتاج إذن إلى قوات برية تقاتل على الأرض، فتخيلوا ماذا كان البديل لولا وجود الجيش الحر؟ إما التدخل البري بقوات أجنبية غربية (وهذا خيار مرفوض قطعاً)، أو بقوات برية عربية أو تركية (وهذا الخيار لا اعتراضَ عليه من حيث المبدأ، لكنه ليس خياراً مفضَّلاً وليس وارداً أصلاً في الظروف الراهنة)، أو سيكون البديل هو أسوأ الخيارات: تسليح الثورة ونشوء عشرات الجماعات المسلحة في مناطق سوريا المختلفة. وقد ناقشت سلبيات ومخاطر هذا الاتجاه في مقالات سابقة فلا حاجة لتكرار القول فيه.
(5) أخيراً فإن الجيش الحر سوف يقود الثورةَ إلى النصر -بإذن الله-
لأنه هو حجر الأساس في الحملة الدولية التي يجري ترتيبها لإسقاط النظام، وهذا موضوع مقالة قادمة مفصلة إن شاء الله.
==
مجاهد مأمون ديرانية
22/11/2011