غسان الإمام
بعد هدوء نسبي استغرق أربعين سنة، عاد البركان السوري ليلقي بحممه على المشرق العربي. فقد تجدد الصراع على سوريا بين قوى عربية، وبينها وبين قوى إقليمية. وجاءت الانتفاضة لإثارة ولع أوروبا وأميركا القديم بمسرح العبث السوري الذي ازدهر في أربعينات وخمسينات القرن الماضي.
كتم حافظ الأسد أنفاس السوريين. لكن حول سوريا من أداة في اللعبة إلى لاعب ماهر يلعب لصالح نظامه. بعد عشر سنين، فقد الورثة التوازن الدقيق الذي أقامه الأب: فكك الابن المحور السوري المقبول عربيا، مع السعودية ومصر، وعمق الحلف الغريب المرفوض قوميا، مع إيران!
لم تكن نكسة إخراجه عسكريا من لبنان درسا كافيا له. فقد ترك ليبرالية الفساد لتخلف هوة طبقية، بين طبقة سنية محرومة وجائعة في الريف، وطبقة سنية بازارية في المدن الكبيرة (دمشق وحلب) ترضى بالقليل من الكثير الذي يلتهمه فساد العائلة، وتسلط الطائفة.
تغيرت الظروف والتقنيات. تغيرت قواعد اللعبة. خرج لاعبون. دخل آخرون. لكن النظام لم يتغير. قابل الورثة الاحتجاج السلمي بقمع وقتل مروِّعَيْن. النظام، في انغلاقه وأميته، عاجز عن التفكير وإدراك المتغيرات. وفي مقدمتها، تراجع مبدأ السيادة أمام حقوق الإنسان، في التدخل.
الواقع كالشمس لا يمكن إخفاؤها بأصابع اليد. لم يعد بالإمكان إخفاء المجازر عن عيون العالم. قتل في زمن الأب عشرون ألف إنسان في حماه. لم يكلف الأب نفسه ونظامه مجرد إصدار بيان بالتأكيد أو النفي. ها هو الابن ينفي. صحفه وأجهزته تنفي.
لكن حصان طروادة (الإلكتروني) الذي أدخله هو بنفسه، بذريعة العصرنة الزائفة، يتولى فضح المجازر، عبر ألوف مواقع الوصل الاجتماعي.
المبادرة العربية التي تحركها الدبلوماسية القطرية هي آخر فرصة لنظام غير قادر على انتهازها. فهي تشكل في شروطها تعجيزا للنظام. إخراج دباباته. أجهزة قمعه. وشبيحته من المدن المتمردة عليه، يعني استقلالها عنه. الحوار مع معارضة الداخل والخارج يفرض، في النهاية، قبوله بديمقراطية تجبره على التنحي، والتخلي عن مكاسب العائلة، وهيمنة الطائفة على الدولة. والجيش. والأمن. والإدارة المدنية. واحتكار السياسة الخارجية.
في السياسة، الخط المستقيم لا يصل بالضرورة بين نقطتين، كما في الهندسة. يوما بعد يوم، يتشكل لدى صناع القرار الدولي موقف يلقى قبولا عربيا متزايدا، حتى لدى الشارع السوري، بأنه لا بد من طريق التفافي، للوصول إلى دمشق.
هذا الموقف الدولي يستند إلى رأي استراتيجي بأن الطريق إلى دمشق لا بد أن يمر بطهران. لماذا طهران وليس دمشق مباشرة؟ لأن نظام بشار يهدد بزلزال يفجر سوريا والمنطقة، عليَّ وعلى أعدائي، إذا حدث تدخل عسكري مباشر ضد نظام العائلة والطائفة.
لا شك أن إيران، في حلفها مع نظامه، أقنعت بشار بأنها قادرة على حمايته عسكريا وأمنيا. هذه الحماية، في الواقع، كانت قد وفرتها له أميركا وأوروبا، عبر علاقة خفية وغامضة، قامت على أساس الإبقاء على نظام ضعيف داخليا، في مقابل محافظته على هدنة هادئة مع إسرائيل، كفلت لها استمرار احتلال الجولان نحو خمسين سنة.
وهكذا، بات الطريق إلى دمشق يمر مباشرة في طهران. أو بمعنى آخر، فإضعاف إيران بقصفها جوا، يهدهد من صلافة النظام الحليف لها في دمشق، ويجبره على التنحي، وتفكيك هيمنته الطائفية المطلقة، على الدولة والمجتمع، هذه الهيمنة التي لم تعد مقبولة دوليا، وفي الظروف والمتغيرات الجديدة في المنطقة العربية.
لكن لماذا هذا الهوى المتجدد، لدى الغرب في التعامل بالقوة مع إيران؟ الأسباب كثيرة. في مقدمتها، المعلومات الجديدة عن قرب امتلاك إيران القنبلة النووية. ثم الاعتقاد الأميركي بأن الانسحاب من العراق، والتموقع في الخليج، من شأنه تسهيل التصدي المباشر لإيران، قبل استكمال فرض هيمنتها، على نظام أشياعها في العراق. وهي هيمنة لا شك ستوفر لها نقل قوات إيرانية ضخمة إلى سوريا، مزودة بصواريخ بعيدة المدى، ربما قادرة على حمل أسلحة نووية.
الأهم من ذلك، اعتقاد أميركا وأوروبا بأن حلف الناتو، بعد التجربة الأورو/أميركية الناجحة في ليبيا. وأفغانستان. وباكستان. واليمن، بات يمتلك تقنية الحسم الجوي، بالصاروخ وطائرة النحلة (Drone)، لتغنيه عن التدخل البري المكلف بشريا وماديا. وإذا ردت إيران بقصف الخليج أو إسرائيل، عندها يتم تدمير حقولها وصناعتها النفطية أيضا من الجو.
الرهان الغربي هنا يقوم على الاعتقاد بأن التدخل الجوي كاف لتحريك المعارضة الوطنية الإيرانية لإسقاط نظام الملالي. غير أني أحذر سلفا من أي اعتقاد عربي، بأن نظاما قوميا فارسيا سيكون أقل شهوة في السيطرة على الخليج والمشرق العربيين، من النظام الثيوقراطي. بل سيمتلك هذا النظام قاعدة ضغط داخل أميركا، يشكلها مئات الأكاديميين الإيرانيين المؤمنين بالتفوق الفارسي، والمقيمين في أميركا، في حين لم تنجح 22 دولة عربية، بكل ما تملك من إمكانيات وطاقات، في تشكيل «لوبي» مماثل.
النظام الديمقراطي الغربي لا يملك صحفا. لكنه قادر، بخبرته، على فرض سياساته وقضاياه على الإعلام والرأي العام. إسرائيل نتنياهو تفرض، إعلاميا، أجواء الحرب المحتملة ضد إيران، على عالم غربي أنهكته الحروب. واستنزفته أخطاء الأنظمة الليبرالية في محاولتها إنقاذ الرأسمالية. هدف الثلاثي نتنياهو. باراك. ليبرمان، إخراج حكومة اليمين الديني/ الصهيوني المتطرف من عزلتها الدولية. ومن النكسات المريرة التي ألحقتها بها دبلوماسية محمود عباس الناجحة. ثم تفادي خطر انتفاضة الطبقة الوسطى الإسرائيلية التي تقدم ثقافة الرخاء والرفاهية، على ثقافة الأمن والردع المكلفة.
لكن هل يقبل منطق حرب خليجية جديدة، يجري الترويج لها إعلاميا على مستوى دولي، الواقع الطارئ في المنطقة والعالم، وبالذات في الولايات المتحدة، باراك أوباما لا يريد حربا جديدة، في سنة انتخابية صعبة. ولعله يرى، في «طوشة» الحرب الإسرائيلية، تهديدا إسرائيليا متعمدا، ضد فرصه الانتخابية، فيما فرنسا وبريطانيا المنتشيتان بنصرهما الليبي، لا تريدان حربا تثقل كاهلهما المالي، مع تردد ألمانيا في تعويم دول، كاليونان وإيطاليا، تعيث فسادا بنظام اليورو المترنح.
ولعل إيران ذاتها تريد من قنبلتها مجرد حماية نظامها. وتتستر على اختراقها العرب، بتقليد نجاد للمرحوم الشقيري في الدعوة لإلقاء اليهود في البحر. أما في المنطقة العربية، فلم تحقق إيران كسبا يذكر من الانتفاضة. الإسلام السياسي السني المرشح لتولي الحكم في تونس. وليبيا. ومصر، لا يبدو مستعجلا لإقامة نظام ديني، وليس راغبا في تنصيب فقيه شبه قداسي، يحرم الفقه السني منحه الحق «الإلهي» في التصرف بحياة ومصير مئات الملايين من المؤمنين.
من هنا، فالطريق إلى دمشق عبر طهران يبقى معطلا. أو مؤجلا. وبالتالي، سيستمر النظام السوري في الرهان على الاستئصال الأمني للسوريين، لتأمين انتحاره بيده، لا بيد مبادرة من زيد. أو عمرو.
*نقلا عن صحيفة "الشرق الاوسط"