كل الناس وكل وكالات الأنباء ، والمحللين السياسيين ، والصحفيين ، اندهشوا واستغربوا ، وتفاجئوا ، بسقوط الجرذاني القابع في طرابلس بهذه السرعة الرهيبة ، خلال ساعات معدودة ، تمكن الثوار من الدخول إلى مقره في باب العزيزية ، الذي قيل عنه : أنه ذو تحصينات قوية ، وشديدة ، ويحتاج إلى أسابيع ، إذا لم يكن أشهر ، للتغلب على تحصيناته ، والقضاء على حراسه والمدافعين عنه .
غير أن سبب هذه الدهشة والإستغراب ، هو جهل كثير من الناس ، بطبيعة بناء الطاغوت النفسي ، والعضوي والهيكلي الإستبدادي ، إنهم ينظرون إليه من الخارج ، فيشدههم ، ويخطف أبصارهم ، ويبهر نفوسهم ، ويزيغ عقولهم ، ما يرونه من بنيان هائل كبير عظيم ، ويحيط به الحراس مدججين بالسلاح ، فيلقي في قلوبهم الخوف والهلع والرعب ، وتأسرقلوبهم ، وتخلب ألبابهم وعقولهم وأرواحهم ما يرونه من زينة تحيط به كما قال تعالى عن قارون ( فخرج على قومه في زينته ، قال الذين يريدون الحياة الدنيا ، ياليت لنا مثل ما أوتي قارون ، إنه لذو حظ عظيم )
ويعلق الشهيد العظيم ، سيد شهداء القرن العشرين في ظلال القرآن على هذه الآية بكلمات من نور وضياء
وفي كل زمان ومكان تستهوي زينة الأرض بعض القلوب , وتبهر الذين يريدون الحياة الدنيا , ولا يتطلعون إلى ما هو أعلى وأكرم مها ; فلا يسألون بأي ثمن اشترى صاحب الزينة زينته ? ولا بأي الوسائل نال ما نال من عرض الحياة ? من مال أو منصب أو جاه . ومن ثم تتهافت نفوسهم وتتهاوى , كما يتهافت الذباب على الحلوى ويتهاوى ! ويسيل لعابهم على ما في أيدي المحظوظين من متاع , غير ناظرين إلى الثمن الباهظ الذي أدوه , ولا إلى الطريق الدنس الذي خاضوه , ولا إلى الوسيلة الخسيسة التي اتخذوها .
ومن دعاية كبيرة ، واستعراضات مثيرة ، وجوقات صادحة ، بالأنغام والموسيقى ، ومداحين ومصفقين ، ومنشدين ومغنين وراقصين ، ليسحروا أعين الناس ويسترهبوهم ، ويستولوا على قلوبهم وأرواحهم وأفكارهم ، بل حتى على أجسادهم ، فيظن غوغاء الناس ودهماؤهم بل عامة الناس – بمافيهم الذين يحملون أعلى الشهادات العلمية في التحليل والإستراتيجية والسياسة والإجتماع – إلا من رحم الله ، ممن تنورت قلوبهم ، وبصيرتهم بنور الإيمان العميق ، الثاقب اليقيني ، الراسخ وضيائه ، أن هذا الطاغوت شديد القوة ، عزيز الجانب ، منيع ، حصين ، متين ، مترابط ، راسخ ، صامد لايمكن أن يتهاوى ، ولا يمكن أن يتداعي ، ولا يمكن أن يسقط .
وهكذا يخيل للناس البسطاء ، السذج أن بناء هيكل الطاغوت ، صلب لا يمكن النفاذ إليه ، ولا تحطيمه ولا تفتيته ، بل حتى ولا الإقتراب منه ، بل حتى ولا النظر إليه ، خشية أن يصابوا بالعمى ، لأن جنود الطاغوت وعماله وعبيده ، قد نشروا الشائعات ، ولفقوا الحكايا والقصص ، والأساطير والخرافات ، أن هذا الطاغوت : هو الإله وهو السيد ، المنعم المتفضل على العباد ، وعليهم أن يسمعوا ويطيعوا بدون نقاش ولا جدال ، ولهذا قالت العصابة التي اعتدت منذ أيام على الرسام علي فرزات ( يجب أن نكسر أصابعك كي تعرف كيف تحترم أسيادك )
ولكن حقيقة الطاغوت هو خلاف ذلك تماما فالظاهر غير الباطن .
وكما يقول المثل العامي ( من برا رخام ومن جوا سخام ) .، إنه من الخارج يخدع الناظر إليه ، ويوهمه أنه بناء فخم ، مزين مزخرف جميل ، ولكنه من الداخل فيه العفن والتفسخ والتحلل .
وكذلك يشبه البالون الملون ، بألوان زاهية جميلة ، تسحر العقول وتأسر الألباب ، ولكنه فارغ ، وبمجرد أن ينثقب بثقب صغير ، يتلاشى ويزول ، ويصبح في خبر كان .
ولكن أصدق تشبيه للطاغوت المستبد هو : شكل السن الموجود عند كل البشر ، ويستخدمه يوميا لمضغ الطعام ، ومن المحتمل أن عددا من الناس غير قليل قد عانى من هذه الظاهرة ، أو حدثت معه ، وهو أنه فجأة وهو يأكل طعاما ، قد يكون قاسيا أو فيه حصاة صغيرة ، وإذا بالسن ينكسر كليا أو جزئيا ، فيندهش ويستغرب ، ويغضب من زوجته ، التي لم تنظف الطعام قبل طبخه جيدا ، وقد يؤدي إلى طلاقها ، أو إلى مشاكل كبيرة ، متهما إياها بالتقصير ، والإهمال ، في العناية بالطبخ ، ويتهمها بأنها هي السبب لكسر سنه ، ولكن للأسف – لمن لا يعرف طبيعة انتشار التسوس في السن ، يعتقد جازما أن هذه الحصاة الصغيرة هي السبب الوحيد ، والحقيقي لكسر سنه ، ولذلك هو ينازع زوجته ، أو من ترك الحصى في الطعام بدون حق ، وفقط ظلما وعدوانا لأنه لا يعلم – ولكن الحقيقة – لدى علم طب الأسنان – أن هذه الحصاة ، هي سبب مباشر وليس سبب حقيقي ، وفرق كبير جدا ..جدا بينهما ، وشتان بين السبب المباشر والسبب الحقيقي ، فالسبب الحقيقي هو التسوس والفساد ، الذي انتشر في السن ، بدليل أن نفس هذه الحصاة ، لو صدمت سنا سليمة صحيحة ، لما انكسرت إطلاقاً ، فكانت الحصاة ، هي سبب مباشر ، لتفتت السن ، بعد أن تلف السن من الداخل ، وأصبح مهيئا للسقوط تحت أقل صدمة ، حتى ولو بدون الحصاة ، وهذا يشبه المثل المعروف ( القشة التي قصمت ظهر البعير ).
وبما أن اختصاصي طب أسنان لأكثر من أربعين سنة ، فسأبين بالشرح البسيط ، مدى التشابه الكبير ، بين تحطم السن ، وسقوطه بشكل مفاجئ ، وغير متوقع ، لأنه كان ظاهريا سليما مائة بالمائة ، وبين تحطم وسقوط الطاغية الجرذاني – وسقوط وتحطم وهلاك أي طاغية آخر ، ومن ثم سقوط وتداعي الطاغية الجرثومي في دمشق - خلال ساعات ساعات قليلة ، وبشكل مفاجئ ، وغير متوقع ، لأن لديه ظاهريا التحصين المنيع ، الذي يوهم من في الخارج ، أنه مستحيل أو مستبعد جدا سقوطه بسهولة .
ما الذي يحصل بالسن حتى ينكسر ، ويتهشم فجأة ، مع أنه ظاهريا سليم ، ليس فيه أي تسوس ، أو نخر ، أو خراب أو ألم ؟؟؟؟
تفسير هذه الظاهرة المدهشة العجيبة هو كما يلي :
يحدث التسوس أحيانا ، في السطح الملاصق للسن ، في منطقة جانبية خفية عن العين ، ومن ثم يأخذ في الإنتشار داخليا في جميع الإتجاهات ، بدون أن يؤثر على الشكل الخارجي للسن ، فيبقى ظاهريا على أنه صحيح سليم من أي عيب ، غير أن هذا الإنتشار الداخلي للنخر ، يؤدي إلى إضعاف جدران السن ، فتصبح رقيقة جدا ، وهذه العملية قد تستغرق وقتا طويلا ، أشهر أو سنوات ، على حسب شدة الجراثيم الموجودة في داخل السن ، وحينما تصبح الجدران هشة ، ضعيفة ، رقيقة جدا ، وتأتي الحصاة الصغيرة بين الأسنان ، فيعض عليها الإنسان ، وإذا بالسن ينفلق ، ويتصدع ، ويتفتت ولا يبق منه سوى الجذر ، كما ظاهر بهذه الصورة المنطقة الجانبية المخفية لبدء عمل السوس .
وهذا هو الذي حصل بالضبط - مع شئ من المونتاج الخارجي الشكلي الظاهري – في سقوط الطاغوت الجرذاني الليبي ، ومع كل طواغيت الأرض ، منذ فجر الحياة البشرية ، وإلى قيام الساعة ، وسيحصل قريبا جدا بإذن الله تعالى ، مع الطاغية الجرثومي بثار أفندي .
إنه ناموس واحد ، وقانون واحد ثابت لا يتغير ، طالما هناك طاغوت ، فثمة فساد ملازم ، ومرافق ومصاحب له ، وهذا يمثل التسوس الذي ينخر في جسم الطاغوت من الداخل ، ويستمر في الإنتشار والتوسع والتمدد ، حتى يأتي على كل مقومات الكيان الداخلي للطاغوت ، بدون أن يمس أو يغير أو يبدل ، من الشكل الظاهري للطاغوت ، فيظن الناس أنه سليم صحيح ، قوي متين منيع ، فتظهر الثورة الشعبية فجأة ، دون أي مقدمات ، ودون توقعات الطاغوت – كما تظهر الحصى فجأة في الطعام بدون أي مقدمات ، أو توقعات – فتحطم الهيكل الخارجي للطاغوت ، وتفتته تفتيتا ، وتهشمه تهشيما ، وتنسفه نسفا ، فتذره قاعا صفصفا ، لا ترى فيه عوجا ، ولا أمتا .
( فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله ، وما كان من المنتصرين )
ويعلق سيد قطب على هذا الحدث المؤلم المفجع لهذا الطاغية قارون :
هكذا في جملة قصيرة , وفي لمحة خاطفة: (فخسفنا به وبداره الأرض)فابتلعته وابتعلت داره , وهوى في بطن الأرض التي علا فيها واستطال فوقها جزاء وفاقا . وذهب ضعيفا عاجزا , لا ينصره أحد , ولا ينتصر بجاه أو مال .
وهكذا سقط طاغوت رومانيا تشاوشيسكو في عام 1989 في ساعات قليلة ، وتم إعدامه في لحظات ، ما كان يتخيل ، ولا يتوقع أن تنتهي حياته التي كانت تملأ السمع والدنيا بهذه السرعة ، وهذه البساطة.
إنه قدر الله الصانع المبدع ، والسنن الكونية ، التي تحكم ، وتصرف وتدبر هذا الكون ، فلاخوف ولا وجل ، ولا قلق ، ولا شك ، ولا ارتياب ، في سقوط هذا الطاغية الجرثومي ، الذي طغى وبغى ، وقتل ودمر ، وسفك الدماء ، إنه أحمق أبله ، جبان رعديد ، يستقوي على الأطفال والنساء ، والشيوخ والشباب ، العزل ، يقاتلهم بالسلاح والمدفع والدبابة ، وهم لا يملكون شيئا .
كان عرب الجاهلية حينما يطلب أحدهم مقاتلة أو مبارزة الآخر ، ويتصدر له شخص أقل كفاءة منه بالقتال ، يرفضونه مع أنه يحمل السلاح ، لأنهم يعتقدون أن تغلبهم على شخص ليس كفؤا لهم ، هو إساءة وإهانة لهم ، ولا يعتبرونه انتصاراً .
هذه هي الشهامة العربية الجاهلية ، أما عند بثار الوحش ، فالخسة والدناءة ، والنذالة ، مع الغباء وسوء التقدير، وتصرفاته الهوجاء ، الرعناء ، ستورده المهالك يقينا ، وسترمي به إلى المشنقة ، في الدنيا ، وإلى سقر في الآخرة .