يا أحرار الخارج: ادعموا الثورة


هذه المقالة موجَّهة إلى سوريي الخارج الذين يعيشون في الغربة والشتات، فلا داعي لأن يُتعب أهل الداخل أنفسَهم بقراءتها (إلا من كان منهم من الأثرياء)، وهي موجهة أيضاً إلى كل عربي حر أبيّ ومسلم مؤمن صادق الإيمان.

يا أيها الناس: إنكم لا تزالون عامّةَ شهركم تشترون وتنفقون، تشترون الغذاء الذي تأكلون والكساء الذي تلبسون، وتدفعون إيجارات البيوت وأقساط المدارس وفواتير الكهرباء ومصاريف السيارات التي تركبون… وكل ذلك في سبيل سلع مستهلَكة ومشتريات لا تدوم، فالقوت يَفنى واللباس يَبلى، والإيجارات والأقساط والمصروفات كلها تدور في حلقة لا تنتهي، فلماذا لا تدفعون وتستثمرون في سلعة لا تفنى ولا تبلى ولا تزول، سلعة تتنعّمون بها ويرثها منكم الأولاد والأحفاد؟ تقولون: وأي سلعة تنطبق عليها هذه الصفات؟ ألا تعلمون؟ إنها “الحرية” التي فقدها آباؤنا فحُرمت منها ثلاثة أجيال، وقد آن لنا أن نسترجعها لتبقى لنا وللأجيال اللاحقة. ولكنها لا تأتي بلا ثمن، والثمن غال، فتعالوا نشارك بدفعه.

إن ثمنها الدم. لقد جاد بالدم إخوانكم على أرض الشام، ولكنها بقيت من الثمن بقيةٌ تُدفَع بالمال، أفلا تدفعون قليلاً من المال حينما فاتكم أن تدفعوا كثيراً من الدم؟ لقد قرر أهل سوريا أن يعقدوا الصفقة وأن يشتروا “الحرية” بالثمن الأغلى، لكن الدين والمروءة والأخلاق تأبى أن يُترَك أهل الداخل ليواجهوا المحنة وحدهم، لذلك فإنني أرسل في هذه المقالة نداء إلى كل سوري يقيم خارج سوريا، وإلى كل عربي وكل مسلم:

إن النظام المجرم يسعى إلى خنق الثورة بخنق حياة الناس، ويحاول أن يحطمها بتحطيم أسباب المَعاش التي يعيش عليها الناس. إنه لم يكتفِ بأن حاصر أهل الثورة في مدنهم وفي قراهم، بل زاد على ذلك فدمر أقواتهم وممتلكاتهم، ولم يَسْلم منه حتى الزرع ولم تسلم الماشية، بل إنكم رأيتموه وهو يبيد حتى الحمير! فإذا لم يعوّض أهلُ الخير على أهل الثورة خسائرَهم فلن يلبثوا أن يعجزوا عن الحركة. ثم إن النظام قتل واعتقل وطارد وشرّد وحاصر، فحال بين الناس وبين أعمالهم وأرزاقهم. في هذه الظروف العصيبة يأتي دور الأخ القريب والصديق الوفي. لقد قاموا هم بحصتهم من الواجب خير قيام، وما بقي من الواجب هو حصتكم يا أهل الخارج الشرفاء.

* * *

يا أيها السوري المغترب: أن أهلك في الداخل يخوضون الحرب بالنيابة عنك، ليس ليكسبوا هم وحدهم بل لتكسب أنت أيضاً ويكسب أولادك، لتعود إلى بلدك كريماً وتعيش فيها كريماً ويعيش فيها أولادك وأولاد أولادك بحرية وكرامة. فلا تتنكّرْ لأهلك، بل ابسط إليهم يديك بما تستطيع من دعم ومساعدة، وأقله المال. إن النظام المجرم يخنق الأحرار في سوريا ويضيّق عليهم سُبُلَ الحياة ليخرّوا على قدميه راكعين مستسلمين، ولن يفعلوا بإذن الله… ولكنهم يعانون اليوم وسوف يعانون في الغد وغداة الغد ما لم تُمَدّ لهم اليد بالمساعدة. آلاف الأسر انقطع عنهم المال بسبب غياب المُعيل تحت التراب، وعشرات آلاف بسبب غياب المعيل في المعتقلات، ومئات آلاف بسبب الحصار. إنهم ماضون في ثورتهم بك وبغيرك من العباد، قد اعتمدوا على رب العباد ووثقوا بنصر رب العباد، وجاء دورك لتفيض عليهم مما رزقك الله. ولكن لا يخطرنّ لك ببال أن تَمُنّ عليهم بما تدفعه لهم، ولا تظنّنّ أنك تتنفّل بمساعدة أهلك بالمال؛ لا، إنها الفريضة عليك بعدما قاموا هم بالعبء الأكبر بالنيابة عنك. ولا تدفع مرة وتقول: قد وفيت بالذي عليّ! أرأيتهم خرجوا بمظاهرة مرة ثم قالوا: قد وفينا بالذي علينا؟ إنهم لا يتوقفون ما دام عدوهم وعدوك في قصر الرئاسة في الشام، وأنت حريٌ بك أن لا تتوقف ما داموا هم لا يتوقفون.

حينما نشرت مقالة “إلى أهلنا في الغربة والشتات: ادعموا صفحات الثورة” كان في نيتي أن تكون واحدة من عدة مقالات أخاطب فيها سوريّي الخارج وأقترح عليهم فيها وسائل لدعم الثورة ولدعم إخوانهم في الداخل، ثم تشعبت بي سبل الحديث وقال غيري ما كنت أريد قوله فلم أجد داعياً لإضاعة أوقات الناس بكتابة المزيد. لكنّ موضوعي الذي أناقشه اليوم أعادني إلى تلك الأفكار، وكما تتوقعون (وكما سمعتم من غيري) فقد كان الدعم المادي واحداً من أهم ما ينبغي أن أتحدث عنه وأحثّ عليه أهلنا في الخارج.

لن أضيع وقتكم إن عدت اليوم إلى هذا الموضوع، فالحاجة لم تتوقف ولم تتراجع، بل هي في ازدياد مع ازدياد معاناة أهلنا في سوريا. منذ اليوم الذي نشرت فيه مقالة “إلى أهلنا في الغربة والشتات” في السادس من تموز إلى اليوم تضاعفت الحاجةُ عدةَ مرات، وزادت معاناة الناس عدةَ أضعاف، وما يزال السوريون الذين يعيشون في الخارج مقصّرين في استشعار الهمّ ومقصّرين في تقديم الدعم اللازم. سأروي لكم حادثة واحدة: بعدما نشرتُ تلك المقالة بأيام دُعيَت زوجتي إلى حفل أقامته إحدى الأسر السورية، ثم أخبرتني أن الحفلة كانت في قاعة فاخرة وأنها ربما كلّفت عشرين ألف ريال. أقسم لكم إني لما سمعت ذلك أحسست بالنار تشتعل في قحف رأسي! ربع مليون ليرة سورية تُهدَر في ثلاث ساعات احتفالاً بـ… بماذا؟ بسقوط النظام المجرم في سوريا أم بتحرير بيت المقدس؟ لن تتخيلوا. احتفالاً بنجاح بنت من صف في المدرسة إلى صف! من أجل هذه المناسبة “العظيمة” أنفقت عائلةٌ سورية في ثلاث ساعات ما يمكن أن تعيش به ثلاثون عائلة سورية لمدة شهر! أيُّ دين يُجيز هذا البذخَ وأيّ ضمير، في الوقت الذي يَطوي فيه آلافُ الأطفال في سوريا بطونَهم على الجوع لأنّ مُعيلهم مغيَّبٌ في السجون أو هارب هائم على وجهه في الجبال والبساتين؟

يا أهلنا في الغربة والشتات: اتقوا الله! إن الثورة لا تستمر بغير وَقود، وإن إخوانكم في سوريا يُوقدونها بالدم كما يوقَد السراج بالزيت، ولكنهم إن لم تمدّوهم بالمال نفد وقودهم وسكنت ثورتهم وانتصر عليهم عدوكم وعدوهم، وأين ستذهبون من الله لو أن هذا حصل لا قدّر الله؟

لا تقولوا إني أستطرد وأطيل وأضيع أوقاتكم بالتكرار، فإنها لا قيمةَ لوقت ضائع في جَنْب نُفوس تُزهَق وثورة تُخنَق، ولو وجدت حاجة للعَوْد إلى هذا الموضوع مئة مرة لعدت مئة مرة ولا أبالي.

* * *

أخيراً فإنني أرسل نداء إلى كل عربي وكل مسلم: إن أهل سوريا يخوضون الحرب بالنيابة عنكم، الحرب ضد عدوكم الذي تعرفون والذي قارب أن يكمل مشروعه وكاد يلفّ الأنشوطة على أعناقكم لولا ثورتهم المباركة. إنها إن تهلك اليومَ عصابتُهم فلن يُرفع ذكر الله في أرض الشام أربعين سنة، فلا تتخلَّوا في هذه الساعة عنهم؛ مُدّوا إليهم يدَ العون بما تستطيعون.

لا، ليس إخوانكم في الشام أهلَ حاجة ولا يتسوّلون الإحسان، وقد طالما أغاثوا إخوانهم في فلسطين وفي غيرها كل وقت وحين، ولكن النظام المجرم اقتحم عليهم المدن والقرى فهدم البيوت والجوامع وأهلك الزرع والماشية وأتلف أسباب الحياة، ثم قتل واعتقل ولاحق فغاب المُعيل وانقطعت عشرات الآلاف من الأسر إلا من رحمة الله ورحمة الأخ القريب، فلا يَجْمُل بالأخ القريب أن يقطعها من فضله.

إنها ساعةٌ من الساعات التي لا تتكرر كثيراً في أعمار الأمم، ساعةُ حاجة لشعب لم يحتَجْ قبل اليوم إعانةً بل كان هو المبادر بالإعانات، وما أحوجَه اليومَ إليكم إلا نظامٌ مجرم لن يلبث أن يبلغكم شررُ ناره لو أنه بقي وانتصر لا سمح الله، فلا تفوّتوا عليكم فرصة المساعدة والبِرّ فتفوّتوا الخير الكثير.

((مجاهد مأمون ديرانية))