د. بشير موسى نافع
2011-08-31


في تعليق له على انتصار الثورة، قال مسؤول ليبي سابق أنه لم يشك طوال الشهور الماضية في أن لحظة الانتصار قادمة، لسبب بسيط: أن الشعب الليبي قبل منذ اليوم الأول للثورة التحدي الذي فرضه عليه نظام القذافي.
ثمة من يقول اليوم، وقد أنجز الشعب الليبي الأغلبية العظمى من مهمة إطاحة نظام الاستبداد، أن هذا الانتصار لم يكن ليتحقق لولا التدخل العسكري الكبير الذي قدمته بعض دول الناتو وعدد من الدول العربية في الصراع الذي شهدته ليبيا منذ شباط/فبراير الماضي، أو منذ بدأ التدخل العسكري الخارجي بعد شهر من اندلاع الثورة.
التدخل الغربي الحاسم في الأيام الأخيرة من آذار/مارس هو الذي منع قوات العقيد المخلوع من اقتحام عاصمة الثورة، بنغازي، وارتكاب المجزرة التي كان يهدد بها شعبه. والتدخل الغربي هو الذي دفع قوات العقيد إلى الخلف وأوقفها على محور إجدابيا البريقة، والعون العسكري العربي، سيما من قطر ودولة الإمارات، وفر للثوار عوامل الصمود والنصر في مصراتة، والصمود والتقدم في الجبل الغربي. وأخيراً، كان العون العربي والغربي معاً من أعد الثوار لعملية تحرير العاصمة طرابلس.
ليس ثمة من جدل في صحة هذا كله. ولكن الصحيح أيضاً أن الشعب الليبي هو الذي فجر الثورة، واستطاع خلال أقل من شهر تحرير كل الشريط الليبي الساحلي، من بنغازي إلى طبرق، مقدماً تضحيات كبيرة بلا شك. والشعب الليبي هو الذي نهض، بشبابه وشيوخه، ونسائه في أحيان كثيرة، وحمل السلاح، عندما فرض عليه النظام خوض الحرب في مواجهة قواته. وقد تسلح الليبيون، وقاتلوا، قبل أسابيع طوال من وقوع أي تدخل خارجي، عربياً كان أو غربياً.
في مصراتة وفي الزاوية، قاتل الليبيون ببسالة نادرة، قبل وبدون حتى مجرد أمل في تدخل خارجي ما. وكذلك حرر ثوار الجبل الغربي قطاعاً واسعاً من بلادهم، وأخذوا في التقدم نحو الزاوية وطرابلس. كنت أحد العرب الأوائل الذين دخلوا ليبيا بعد يوم أو يومين من بدء القصف الجوي الغربي لقوات العقيد على الطريق بين إجدابيا وبنغازي، وهي العملية التي يعزى لها حماية بنغازي من الدمار الذي كان يمكن أن تتعرض له على أيدي النظام السابق.
والحقيقة، أنه لأسابيع طوال، لم يكن للتدخل الخارجي من إنجاز سوى حماية بنغازي. ما شاهدته طوال مئات الكيلومترات، من الحدود المصرية ـ الليبية إلى بنغازي وإجدابيا، كان شعباً ثائراً، أخذ قراره بالتخلص من نظام القمع والاستبداد؛ وقد تدفق الشبان الليبيون إلى ساحات الحرب والقتال، بأي سلاح توفر لهم، وأحياناً بغير سلاح يذكر.
وليس لدي شك أننا سنشهد منذ اليوم حضوراً هائلاً للشعب الليبي، ليس فقط في حسم ما تبقى من المعركة لتحرير كامل البلاد وتوحيدها، ولكن أيضاً في بناء ليبيا السياسي والاقتصادي وتقرير مستقبل البلاد وعلاقاتها.
ما قيل عن سيطرة دول الناتو على الشأن الليبي لن يحدث؛ ما سيحدث أن الليبيين سيستعينون بدول مثل فرنسا وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة بقدر حاجات بلدهم لهذه الدول، وربما بدرجة أقل من ارتماء نظام العقيد أمام العواصم الغربية في سعيه البائس لتأبيد حكمه وسيطرة أسرته على ليبيا وشعبها.
وتدخل الناتو لن يجعل من ليبيا ملحقاً بأوروبا؛ والأرجح، كما تدل مؤشرات عديدة، أن هوية لليبيا العربية ـ الإسلامية ستصبح أكثر توكيداً وأعمق معنى، وأن علاقات ليبيا العربية والإسلامية ستكون أكثر وثوقاً. والمسألة هنا لا تتعلق بالتخلص من نظام مزاجي، غير عقلاني، ومتمحور حول عبادة فرد معتوه وحسب، بل في الحضور الشعبي من جديد، وتسلم الليبيين مقاليد بلادهم. وربما يجدر التذكير بأن مصر ما بعد الثورة أصبحت أكثر صلابة في الدفاع عن حقوقها، وأكثر اقتراباً من محيطها العربي، بالرغم من أن البلاد لم تزل تمر بفترة انتقالية قلقة.
وهذا بالتأكيد ما يجب أن يرى في الحالة السورية، حيث يبدو أن النظام لم يقرأ بعد حجم وعمق الحركة الشعبية التي تقود الثورة السورية، وقدرة السوريين على الارتفاع إلى مستوى التحدي، أي تحد يفرضه النظام عليهم.
منذ منتصف مارس/ آذار، والسوريون يتظاهرون للمطالبة بالحقوق التي طالب ويطالب بها أشقاؤهم في تونس ومصر وليبيا واليمن، وغيرها من بلاد العرب. ومنذ منتصف آذار/مارس، والنظام يقود سورية من هاوية إلى أخرى، مسكوناً بوهم قهر الشعب وهزيمته. بتوظيفه لأبشع وسائل القمع وأكثرها وحشية، وتوريطه الجيش العربي السوري في حرب شاملة ضد شعبه، واستمرار عمليات القتل والاعتقال الجماعي والتعذيب والإهانة وانتهاك الحرمات، يدفع النظام السوريين دفعاً إلى حمل السلاح.
أكثر من خمسة شهور والسوريون يقتلون بلا هوادة، يقتلون في ساحات التظاهر، في شوارع مدنهم وفي بيوتهم، ويقتلون تحت التعذيب، وهم يهتفون بتصميم وإصرار أن ثورتهم سلمية، سلمية. وليس هناك شك في أن ادعاءات النظام المبكرة، ومن الأيام الأولى للثورة السورية، بأنه يواجه عصابات مسلحة، سلفية وغير سلفية، عندما لم يكن هناك من مسلح واحد، ولم يتوفر مراقب واحد رأى أو سجل أثر أولئك المسلحين، إلا محاولة لدفع الشعب إلى التسلح، ومن ثم تحويل سورية كلها إلى ساحة حرب دموية، يظن قادة النظام أنها ستنتهي بانتصارهم.
ما هو أخطر كان محاولات النظام الحثيثة لإيقاع انقسام طائفي، وإشعال حرب أهلية ـ طائفية. بينما كان السوريون، في كافة أنحاء البلاد، يؤكدون وحدة البلاد والشعب، كان النظام ينشر خطاباً طائفياً، مدعياً بأن المتظاهرين في حمص أو في إدلب يحملون توجهات طائفية.
ولتعزيز الانقسام الطائفي، عمل النظام كما لم يعمل من قبل على حشد الطائفة العلوية من خلفه، زارعاً الخوف والأوهام في صفوف البسطاء والجنود من أبناء الطائفة. ولم يكن يخفى أن أغلبية شبيحة الأمن، وليس كلهم على أية حال، هم من العلويين. شهراً وراء شهر، والنظام يدفع سورية إلى الهاوية الطائفية، التي لم يعرفها الشعب السوري في تاريخه من قبل. وعندما رفض السوريون الوقوع في مخطط النظام، بدأ تصعيد من نوع جديد: من قيام قوات الأمن وميليشيات النظام بكتابة الشعارات المهينة لعقائد المسلمين السوريين، إلى إجبار النشطين على التفوه بعبارات الكفر، وصولاً إلى تدمير المآذن واقتحام المساجد والاعتداء على العلماء. ما حدث لمساجد في حماة ودير الزور، وما حدث في مسجد الرفاعي بدمشق مؤخراً (بل وتوسيع نطاق التوتر إلى العراق، الذي شهد تفجيراً مشبوهاً في مسجد أم القرى)، لا يمكن تفسيره إلا بأن النظام يدفع الأوضاع إلى انفجار طائفي ـ أهلي، في مسعى لإضفاء الشريعة على مستوى أعلى من القمع الوحشي.
ليست هذه دعوة لحمل السلاح في سورية، لا ضد قوات النظام وميليشياته، ولا ضد مشروعه الطائفي. ولكن المتيقن أن الشعب السوري لن يكون أقل من أشقائه الليبيين، إن وضع في مواجهة من هذا القبيل، وخير في النهاية بين استمرار عجلة الموت أو القتال. وربما على النظام وأنصاره أن يدرك الفرق الحرج بين مواجهة جماعة أو تنظيم مسلح، كما كان عليه الأمر في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي، ومواجهة شعب مسلح، كما هو عليه الأمر في ليبيا اليوم. التنظيمات المسلحة، مهما بلغ إيمانها بعدالة قضيتها، سرعان ما تنتهي فريسة لآلة الدولة الحديثة، الأعلى تسليحاً وتنظيماً وكفاءة.
أما الشعب المسلح فمسألة أخرى، سيما إن كانت الظروف المحيطة مواتية. وإن كان النظام قد بدأ بالفعل يعاني من انشقاقات متتالية، وإن صغيرة، في آلته العسكرية، فمن المستحيل أن يستطيع الحفاظ على وحدة الجيش وقوى الأمن في حال انحدرت البلاد إلى حرب واسعة النطاق بين النظام والشعب.
السوريون ليسوا استثناء، وإن إجبروا على خوض امتحان المواجهة المسلحة، فلا يجب أن يكون هناك شك في من سيكون المنتصر في النهاية.
من جهة أخرى، لم يسمع من السوريين حتى الآن، متظاهرين أو قادة معارضة، من دعا إلى تدخل عسكري أجنبي في البلاد، اللهم إلا أصواتاً متفرقة وهامشية. يستشعر السوريون حساسية موقع بلادهم ودورها ومسؤولياتها، ولا يريدون أن تجري عملية الانتقال إلى سورية حرة وعادلة بفعل أو في مواكبة تدخل خارجي في شؤون البلاد، يؤدي، على نحو أو آخر، إلى خلل فادح في دور البلاد وموقعها. ولكن تصميم النظام قصير النظر، والمؤسس على حسابات خاطئة وعدم وعي بطبيعة الحركة الشعبية، على الإمعان في سياسة القمع الوحشي، وانحدار البلاد إلى حالة من انفجار أهلي وواسع للعنف، قد يفسح المجال في النهاية للتدخل الأجنبي.
سورية القديمة قد انتهت. سورية لن تعود إلى حكم الأسرة والمجموعة الصغيرة من الملتفين حولها، انتهازية أو ربحاً أو خوفاً.
وكلما أسرع النظام وحلفاؤه في رؤية هذه الحقيقة، وأن الشعب السوري قبل أعباء التحديات المطروحة أمامه، كلما كان ذلك أفضل وأسلم واقل ضرراً، للنظام ورجاله وحلفائه، للعرب وللجوار الإقليمي، ولسورية ككل.

' كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث