أمس الأول، و قبل الإفطار بدقائق، طرقت بابنا سيدة في الخمسين من عمرها.. كانت ترتدي ثوباً حورانياً وتغطي فمها خجلاً وهي تطلب بغصّة، قالت : (والله يُمّه هاي مهي شغلتنا.. لكن هجّينا من سوريا بأول رمضان.. و..).. ثم سكتت ..لم تكمل حديثها، ولم أكن بحاجة لأن تكمل حديثها ..
فقد كانت متوضئة بحزنها، ومن ثوبها تفوح رائحة النزوح، على أكمامها بعض التراب كتطريز قديم، الدمعة في عينها من زجاج، ولا تريد أن تخدش بها كرامة الروح، توقّفتْ عن الكلام، فأحسست أن الوطن كلّه في حنجرتها، لا تستطيع أن تبتلعه أو تلفظه، أن تحبه أو تكرهه، أن تكون ضدّه أو معه..
لم تكمل، لأنها لا تعرف بماذا تكمل!!
وهي ربّة البيت وسيّدة المونة وهي صاحبة الدار، وهي التي تركت غربالها المبحوح بصوت الحصيد، وطابونها المشتعل بوهج «الوقيد»، وقمحها «المسروب» بين أصابعها كحبّات المسبحة، وهي التي تركت معجنها مبطوناً بأرغفة الصغار، ودلال قهوتها مركونة إلى «نقرة» النار..
هي التي تركت درّاجة آخر العنقود.. تقودها الريح والعتمة في حوش الدار.. من اجل شربة حرية، أو شهيق كرامة ..
لم تكمل،لأنها لا تعرف بماذا تكمل!! وهي التي لم تمدّ يدها يوماً إلا لتعطي، ها هي تمدّ يدها الثكلى لتأخذ… لم تكمل، فقط أدارت ظهرها للزمان وعادت، لم تطرق بعد بابي بابا ..مضت في طريقها ثم تماهت في الشمس غياباً..
يا ربّ خلّصهم!!!


اللهم يارب السموات خلصنا من هذا الطاغية القذر

يارب ان القلوب بلغت الحناجر يارب