الفصل الأخير: ماذا بعد حماة؟
مجاهد مأمون ديرانية
ختمت رسالتي السابقة بتساؤلات قلت إني سأناقشها في اليوم التالي أو الذي بعده، فجاءني تعليق من صديق عزيز يقول: بل ربما تسبقك الأحداث قبل كتابة مقالك التالي!
لقد أصاب بإحساسه بالتسارع الخارق للأحداث والتطورات، ولكني لن أكون بطيئاً لهذه الدرجة، فالتطورات الكبيرة تحتاج إلى بعض الوقت. بتقديري فإننا يجب أن ننتظر ما بين أسبوع وأسبوعين، هذا من حيث الزمن، أما ما سيحدث بعد هذا الوقت القصير (نسبياً) فأتوقع أن يكون مفاجأة من العيار الثقيل؛ تطوراً حاسماً جداً وكبيراً جداً في الأزمة السورية، إما أن يضع نهاية سريعة جداً للنظام ويفضي إلى انتصار حاسم للثورة، أو يقود إلى فترة انتقالية صعبة وطويلة. لا أرى حلاً وسطاً بينهما، وأتمنى أن تكون الأولى، فليس بعيداً على الله أن يستجيب دعوات ملايين المؤمنين في سوريا وفي أصقاع الأرض كافة في هذا الشهر المبارك.
* * *
والآن لنكمل من حيث انتهينا في الرسالة الماضية، ولنبدأ باستعراض ما صدر من مواقف دولية جديدة لنضيفه إلى القائمة التي ضمّت ستة عشر موقفاً:
(17) الكويت استدعت سفيرها في دمشق للتشاور.
(18) البحرين استدعت سفيرها في دمشق للتشاور.
(19) أعاد وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل تأكيد موقف بلاده: السعودية تقف صفاً واحداً بجانب الشعب السوري (لا تنسوا أن بيانات الخارجية تُصاغ بعناية، ولاحظوا هنا استعمال كلمة “الشعب السوري” بشكل مقصود وواضح الدلالة).
(20) أعلن وزير خارجية الكويت أن وزراء خارجية مجلس التعاون الخليجي سيجتمعون قريباً للبحث الوضع في سوريا (في وقت لاحق حُدِّد الرابع عشر من هذا الشهر موعداً للاجتماع).
(21) الحكومة الماليزية أعلنت عن سحب سفيرها من سوريا وطرد السفير السوري من أراضيها.
(22) الخارجية الأميركية: المواقف العربية توضح صدمة دول العالم من وحشية النظام السوري.
(23) الخارجية الفرنسية أصدرت تصريحاً صارم اللهجة: وقت الإفلات من العقاب ولّى بالنسبة لدمشق.
(24) وكالة أنباء الأناضول: مسؤول أميركي كبير يصل أنقرة لبحث آخر التطورات في سوريا.
(25) عقد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان اجتماعاً استثنائياً مع رئيس هيئة أركان الجيش الجنرال نجدت أوزال ووزراء الخارجية والدفاع والداخلية لبحث التطورات الجارية في سوريا.
(26) وزير خارجية مصر: مصر تتابع بقلق شديد التدهور الخطير للأوضاع في سوريا، وسوريا تتجه إلى نقطة اللاعودة.
(27) نطق الأزهر الذي لم يُسمَع منه أي صوت قبل ذلك: الأمر جاوز الحد في سوريا ولا بد من وضع حد لهذه المأساة.
(28) اجتماع عاجل لهيئة كبار العلماء في السعودية في مكة المكرمة لاستصدار نداء إسلامي عالمي موحد يندد بالمجازر التي يقوم بها النظام السوري.
(29) وأخيراً تمت الزيارة المرتقبة لوزير الخارجية التركي إلى دمشق، اللقاء مع القيادة السورية كان طويلاً واستمر لنحو ست ساعات، ثلاث منها كانت بين داود أوغلو والأسد منفردَين، ولم يُعرف أي خبر مؤكد عن نتائج الزيارة حتى كتابة هذه الكلمات. (توضيح: وأنا في المراحل الأخيرة من كتابة هذه الرسالة عقد الوزير التركي مؤتمراً صحفياً تحدث فيه عن زيارته دون أن يقدم الكثير. التقطت المحطات كلماته المهمة وركزت عليها، أما أنا فوجدت أن الكلمة المفتاحية في كلامه هي قوله إن مصير سوريا سيحدده الشعب السوري في الشارع، وهي عبارة موحية جداً).
(30) أذاعت وكالات الأنباء قبل قليل نقلاً عن مصادر دبلوماسية: الرئيس التركي يزور السعودية يوم السبت، ووفد أردني يزور السعودية يوم الأحد.
* * *
عندما نضم القائمة الجديدة من المواقف الدولية إلى القائمة السابقة ونقرأ المواقف الثلاثين معاً فسوف يتبادر إلى أذهاننا على الفور استنتاج واحد: إنهم يقرعون طبول الحرب!
لكن هل هذا ممكن؟ هل يمكن أن يقود المجتمع الدولي حملة عسكرية على سوريا كتلك التي نفذها حلف الناتو في ليبيا؟ فأما أنه ممكن فنعم، فلا نستطيع الجزم باستحالة أي احتمال في عالم السياسة الدولية، ولكن لا بد أن نؤكد على أنه مستبعَد جداً. وعلى أية حال فنحن لسنا مضطرين لحصر السيناريو الممكن بالشكل الليبي، فالاحتمالات أوسع من ذلك، ولنناقشها بالتفصيل:
(1) تدخل عسكري أممي
نظراً للسابقة الليبية فإن بعض الكتّاب يتحدثون عن احتمال مشابه، بل إن جريدة السياسة الكويتية نشرت اليوم تفاصيل خطة عسكرية قالت إن حلف الناتو أعدّها لضرب سوريا، وإن دبلوماسياً روسياً هو مَن كشفها مؤخراً. أنا أعتبر أن هذا كله من باب الظنون والأوهام أو أنه اختراعات لا أصل لها.
أعترف بأن هذا الخيار محتمَل، ولكنه ضئيل جداً جداً جداً، لسببين على الأقل: أولهما أن تدخلاً دولياً من هذا النوع يحتاج إلى غطاء قانوني عبر موافقة أحد طرفَي النزاع، ومن البديهي أن النظام لن يطلب من الغرب التدخل لضربه، فماذا عن المعارضة؟ هنا الخبر الجيد. لقد أظهرت المعارضة السورية تماسكاً عجيباً في إصرارها على ثوابت أربعة لم تتنازل عنها مقدارَ أنملة رغم المِحَن والآلام: السلمية ورفض العنف، والوحدة الوطنية ورفض الطائفية، والتمسك بوحدة سوريا واستقلالها على كامل التراب السوري، ورفض التدخل العسكري الخارجي. هذه الأصول الأربعة اتفق عليها الثوار في الداخل والمعارضون في الخارج بإجماع وثبات غير قابلَين للنقاش.
السبب الثاني: لأن حجم القوات العسكرية السورية أضخم بكثير من القوات الليبية. صحيح أن جيشنا غير مؤهَّل لخوض حرب حقيقية، ولكنْ لا بد -في كل الأحوال- من تدمير قوته القتالية في حالة مواجهة عسكرية مفتوحة، وإذا ما أخذنا بالاعتبار الزمن الذي لزم لتدمير الآلة العسكرية الليبية فإن قوة خارجية مشابهة لقوات الناتو التي تدخلت في ليبيا تحتاج إلى ثلاث سنوات لتدمير الآلة العسكرية السورية!
(2) تغيير النظام بانقلاب عسكري
هذا الاحتمال وارد بنسبة عالية (ربما عشرين إلى ثلاثين بالمئة) ولكنه ليس مرجَّحاً، لأن المؤسسة العسكرية السورية مقفَلة في طبقاتها العليا على ضباط موالين للنظام بشكل شبه مطلق، من البعثيين الخُلّص أو من أبناء الطائفة العلوية المتحالفين مع الأسرة الحاكمة. وحتى لو أمكن تجاوز هذه العقبة عبر اختراق لبعض الشخصيات العسكرية الكبيرة (وهذا ليس مستحيلاً) فإن القيد الأمني على المؤسسة العسكرية شديد جداً وتشارك فيه المخابرات العسكرية والجوية والمخابرات العامة والشرطة العسكرية بتداخل عجيب. ثم إن الشارع -وهذا هو الأهم- لن يرحب بتغيير من هذا النوع ولن يثق به، وعلى الأغلب فإن الثورة الشعبية لن تتوقف في مثل هذه الحالة.
(3) اختراق النظام
إن العمل العسكري مكلف كثيراً بسبب الحجم الكبير للقوات المسلحة السورية بأسلحتها البرية والجوية والصاروخية، لذلك لن يكون خياراً محتمَلاً حتى لو وافقت عليه المعارضة (وهي لن توافق)، وبدلاً منه ربما يتم إسقاط النظام عبر اختراقه. هل تتذكرون حرب العراق؟ لقد صمدت قوةٌ صغيرة ربما لم تبلغ مئةَ جندي نحو أسبوع في ميناء أم قصر الصغير، فظننّا -بالقياس- أن الجيش الأميركي الغازي سوف يستغرق ستة أشهر للوصول إلى بغداد، ولكنه وصلها في ست ساعات! كيف؟ بالخيانات. لقد اخترق الأميركيون القيادات العراقية واشتروا كثيراً منهم فحيدوهم من المعركة وانفردوا بقوات الصفوة التي باعت نفسها لصدّام (كما باع قومٌ عندنا أنفسهم للأسد! الديانة نفسها، عبادة الأفراد وصناعة الطواغيت، لا فرق بين الأسد وصدام وعبد الناصر وماو وهتلر وموسوليني وستالين… آلهة زائفة من صنع البشر. ليس هذا موضوعي اليوم فلن أستفيض فيه، ولو أني تركت للقلم العنانَ لكتبتُ فيه مجلداً من الحجم الكبير)!
اختراق النظام يمكن أن ينجح في فصل الرأس عن الجسد، فلو وصل الضغط على بشار الأسد إلى درجة تكفي لحمله على التنحي ومغادرة البلاد، وترافق هذا “الهروب” مع سقوط بعض القيادات الكبرى، إما باغتيال أو باقتتال داخلي (مقتل العماد حبيب مثال محتمَل لاقتتال من هذا النوع) أو بخيانة واستسلام أو بهروب إلى الخارج أو إلى مناطق معزولة داخل البلاد… لو حصل هذا فإن النظام كله يمكن أن يتفكك ويتهاوى سريعاً مع انتشار حالة من الذعر في أوساط القيادات الوسطى، ولا يُستبعد أن تنتهي “الدولة” إلى حالة فراغ مشابهة لتلك التي شهدناها في العراق غداة الغزو الأميركي.
الاختراق بالصورة السابقة يحتاج إلى إعداد طويل، ولا أستبعد أن يكون قد قُطع فيه شوطٌ مهم خلال الشهرين الماضيين. وهو قد ينجح بسرعة إذا أُحسن ترتيبه وتهيأت له الظروف المناسبة، وقد يستغرق وقتاً طويلاً ويستدعي تدخلاً عسكرياً محدوداً تنفذه قوات خاصة لدعم كيان عسكري منشق. وفي هذه الحالة لا بد من توفر مجموعة من الشروط: (أ) موافقة من جهة تمثل المعارضة السورية. (ب) الاعتراف الخارجي بمجموعة عسكرية منشقة. (ج) موافقة دولة حدودية على عمل عسكري محدود لإنشاء منطقة آمنة. (د) غطاء عربي ودولي.
ما هي فرصة توفر الشروط السابقة؟
(أ) الفترة الماضية شهدت محاولات عدة لتشكيل جهة رسمية يمكن أن تنطق باسم الثورة. المحاولات الأولى أثبتت بسرعة وبشكل حاسم أن أي مبادرة تتجاهل الثوارَ في الداخل ستولد ميتة، وصار واضحاً أن الضامن الوحيد لنجاح مبادرة من هذا النوع هو ولادتها من الداخل لا من الخارج، ومن هنا جاءت تلك الفكرة العجيبة بعقد مؤتمر الإنقاذ الوطني في سوريا والخارج معاً لانتحاب هيئة تنفيذية أو حكومة ظل، بغض النظر عن التسميات، المهم هو الخروج بهيئة يمكنها أن تتصل بالعالم الخارجي وتنطق باسم الثورة السورية دون اعتراض أحد من القوى الثورية.
لو سألوني قبل الإعلان عن المؤتمر بيوم واحد عن الشخصية المُثلى لرئاسة المؤتمر المقترَح لما ترددت في ترشيح شيخ الثوار هيثم المالح، وكذلك سيفعل أكثرُ من يمكن أن يُسأل والله أعلم، فهو أكثر الشخصيات قبولاً في الداخل والخارج؛ ومع ذلك كنت سأشك في فرصته في مغادرة سوريا للمشاركة في المؤتمر. ولكنه خرج! كيف خرج؟ لقد أرّقني هذا اللغز لبعض الوقت وأزعجني أيضاً، فقد كان من الاحتمالات التي وضعتها أن يكون المالح مشاركاً في مخطط شرير ينفذه النظام، وقلت في نفسي: لعلهم هددوه بقتل أولاده أو بما هو أكثر من ذلك، فهؤلاء المجرمون لا حدودَ لإجرامهم.
لقد كانت ثقتي كبيرة بالأستاذ المالح دائماً ولم أحب فكرة استغلاله من قبل النظام، أما الآن فإني أجد تفسيراً أفضل للغز خروجه من سوريا. لقد كانت الحاجة إليه ماسّة ليشارك بشخصه ويَلُمّ شعث المعارضة ويجمعها لانتخاب هيئة تمثلها، أفلا يمكن أن يكون الأميركيون أو الأتراك قد ضغطوا على النظام لضمان سلامته والسماح له بمغادرة سوريا؟ هذا ممكن جداً، فإن النظام السوري علّمنا دائماً أنه لا يخاف من شعبه ولا من الله، ولكنه يخاف من أميركا ويحسب لها أكبر الحسابات، ومن قرأ ما كُتب عن التاريخ السري للعلاقات بين سوريا الأسد وأميركا فلن يصدق القصص والأخبار لغرابتها، ولكنها حقائق، وليس هنا محل الاستفاضة في هذا الموضوع فمن شاء فليقرأ عنه في مصادره.
بغض النظر عن ملابسات خروج هيثم المالح من سوريا فقد خرج أخيراً، وعُقد المؤتمر، وكان الرجل مستميتاً لانتخاب قائمة شخصيات تمثل المعارضة. كل هذا يعرفه من تابع أخبار المؤتمر فلا حاجة لإعادته هنا. المهم أن المؤتمر انتخب قائمة؛ لقد وُلدت أخيراً هيئة رسمية يمكن أن تنطق باسم الثورة، وتخطينا العقبة الأولى.
(ب) العقبة الثانية يمكن تجاوزها سريعاً. لقد أُعلن عن ولادة لواء الضباط الأحرار بقيادة مقدم، ثم تلاه إعلان الجيش السوري الحر بقيادة عقيد، وهي رتب جيدة للقيام بالدور المطلوب، لكن لن نستغرب أن ينشقّ قريباً عميدٌ أو لواء لمنح الكيان العسكري المنشق قوة إضافية. الجيش السوري يعلن باستمرار عن عمليات تنفذها كتائبه الميدانية في حمص وحماة ودير الزور وغيرها، وهي عمليات صغيرة أقرب إلى حرب العصابات، لكنها قابلة للتطور إذا انشقت تشكيلات إضافية، وهذا الاحتمال يزيد إذا وُجدت منطقة آمنة ووُجد اعتراف خارجي بهذا الجيش. هل يمكن أن يحصل الجيش الحر أو أي تشكيل عسكري منشق على اعتراف من الخارج؟ بالنظر إلى التطورات الأخيرة فإن الجواب هو “نعم”. هؤلاء المنشقون موجودون على الأرض في سوريا أو على الأرض التركية، وربما جرت معهم اتصالات خلال الأسابيع القليلة الماضية… وهكذا تُحَلّ العقبة الثانية.
(ج) هل يمكن أن توافق تركيا أو الأردن على المشاركة في عمل عسكري محدود أو على فتح الحدود وتشكيل منطقة آمنة بعمق كاف على الأراضي السورية؟ يبدو أن الجواب أيضاً هو “نعم”. لقد شارك الأردنيون في الحراك السياسي الذي شهدته المنطقة خلال الأسابيع الخمسة الماضية على مستوى رأس الدولة، فالتقى الملك عبد الله الثاني في جدة بالملك عبد الله بن عبد العزيز، ولا يستبعد أن يكون الملف السوري هو سبب اللقاء وإن لم يُعلَن شيء عن هذا في حينه، كما أن إدانة وزير الخارجية الأردني للعنف في سوريا كانت سريعة جداً بعد خطاب الملك السعودي، وكأنها رَجْع الصدى. وأخيراً سرّبت بعض المصادر خبراً يشير إلى أن الملك الأردني عبد الله الثاني يجري حالياً مباحثات حثيثة مع قادة المملكة العربية السعودية لما بعد بشار الأسد، والله أعلم بصحة هذا الخبر.
ربما اقتصر العمل العسكري المحدود على الاستعانة بقوات خاصة خارجية تقتصر مهمتها على تنفيذ عمليات خاصة محدودة لضرب شخصيات محورية في النظام أو منشآت أمنية وعسكرية أو سياسية ذات أهمية إستراتيجية (قد تكون فرق عمليات خاصة أميركية أو تركية، أو حتى عربية، وهنا ربما يأتي دور افتراضي آخر للمشاركة الأردنية في الحملة على النظام).
أما تركيا فقد قطعت شوطاً أطول بكثير، فمنذ أحداث جسر الشغور نُشرت أنباء عن استعداد تركي لعمل عسكري، وقيل وقتها إن الخطط موجودة بيد قادة الوحدات التي ستنفذها، ولا يُستبَعد أن تكون القيادة السياسية والقيادة العسكرية في تركيا قد توصلتا إلى اتفاق على عمل عسكري محدود في ذلك الوقت إلا أن عدم الحصول على الغطاء الدولي عطل تنفيذ المشروع. وهكذا يمكن تجاوز العقبة الثالثة.
(د) العقبة الرابعة يجري تجاوزها بسرعة، حيث نشهد -فيما يبدو- جهوداً متسارعة لتطبيق عزل دولي كامل على النظام السوري. مجلس التعاون الخليجي يقود المبادرة هذه المرة وليس الجامعة كما حصل في ليبيا؛ المجلس سيعقد اجتماعاً طارئاً على مستوى وزراء الخارجية بعد خمسة أيام، ويمكن لمثل هذا الاجتماع أن يتمخض عن قرارات حاسمة جداً تحت غطاء التصريح الملكي السعودي. هذا الغطاء نفسه يمكن أن تتحرك تحته دولٌ عربية وإسلامية بالتنسيق مع دول غربية، وصولاً إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، لنزع الشرعية عن النظام السوري دولياً وإقصاء سوريا عن الأمم المتحدة وجميع المنظمات الدولية، وربما تقديم ملف جرائم النظام إلى محكمة العدل الدولية. إذا تطورت الأمور بهذا الشكل فسوف يصبح النظام السوري -قانونياً- عصابة مغتصبة للبلد يجوز للمجتمع الدولي محاربتها وتخليص سوريا منها بكل الوسائل المتاحة.
كل هذه التطورات ملفتة للانتباه، لكن أكثرها إثارة هو موقف روسيا التي تخلت عن النظام السوري أخيراً، وهذا أمر لا يمكن أن يتم ببراءة الأطفال. لا علم لي بما حصل وراء الكواليس (أليس اسمها “وراء الكواليس”؟) ولكن أخمّن فقط أن الروس قد حصلوا على صفقة من نوع ما مقابل السكوت، وربما مقابل ما هو أكثر من السكوت. في هذه الأثناء يلوذ الإيرانيون بالصمت، فهل حصلت إيران أيضاً على صفقة؟ ربما، وإذا كان الأمر كذلك فإني أدعو الله أن لا يكون العراق جزءاً من الصفقة، وأن تقتصر على ترتيبات إيرانية داخلية أو حل بعض المشكلات المتعلقة بالملف النووي الإيراني (رفع بعض العقوبات أو تخفيف العزلة الدولية مثلاً).
اللاعب الوحيد الذي سيخرج بلا مكاسب ولا صفقات هو حزب الله، وهو الخاسر الأكبر مع النظام السوري، فقد كشفت الثورة السورية سَوأة الحزب وأظهرت حقيقته الكالحة للناس، وسوف يخسر كل ما كان يتلقاه من دعم من النظام السوري، ويخسر العمق الإستراتيجي والنفوذ الأمني. لا شك أن هذا واحد من أسوأ أيام الحزب وأنه يعيش كابوساً مريراً ولا يعرف كيف سيتجاوز أزمته، ولا أستبعد أن يسقط في لبنان مع سقوط النظام الحالي في سوريا.
* * *
ألا توجد احتمالات أخرى؟ بالطبع لا بد من وجود عدد غير محدد من الاحتمالات، لكني تحدثت عن أشكال الحل الأكثر تداولاً في الأروقة السياسية أو الأقرب إلى إمكانية حسم الأزمة، ومن بينها يبدو لي أن الأخير هو الأكثر ترجيحاً. ولعل في التطورات الداخلية السورية ما يدعمه:
لقد حصرنا في أول المقالة المواقف والتطورات الخارجية، ولكن ماذا عن الداخل؟ هنا تصبح الأمور أصعب، فإن النظام السوري يحيط نفسه بطبقات من التكتم ويعيش في صندوق مغلق، ومن ثم فإننا لا نحصل إلا على تسريبات وشائعات غير موثقة ولا يُعتمَد عليها في تقويم الموقف. إن الحديث عن خلافات بين الرؤوس الكبيرة في النظام ليس جديداً وقد بدأ مع بداية الثورة، ولكن المرء لا يستطيع الجزم بما يحصل في بيت جاره القريب الذي يقابل بابُه بابَه، فكيف نستطيع الجزم بوجود خلافات بين ماهر وبشار أو أنيسة وأسماء؟ حسناً، لن نعتمد على ما يُشاع ولكن يمكننا تتبع ما يُذاع من أخبار موثقة، ولا سيما حينما تصدر عن النظام ذاته، وقد قدم لنا أخيراً خبرين مثيرين لهما دلالة كبيرة.
الأول هو خبر منع العميد في الحرس الجمهوري ذي الهمة شاليش من السفر وتعميم اسمه على إدارة الهجرة والجوازات وكافة المنافذ الحدودية البرية والجوية. شاليش هو ابن عمة بشار ومرافقه الشخصي، وكان مرافقاً شخصياً لحافظ الأسد من قبل وله نفوذ كبير في الدولة. الثاني هو الخبر المثير عن وزير الدفاع العماد علي حبيب، حيث فاجأنا الإعلام السوري أمس، الإثنين، بإذاعة خبر مقتضب يفيد بتعيين العماد داود راجحة وزيراً للدفاع خلفاً للعماد علي حبيب دون ذكر تفاصيل، مكتفياً بتعليل الأمر بمرض علي حبيب منذ بعض الوقت كما قال البيان، ثم تتابعت أخبار لاحقة تحدثت عن مقتل الوزير السابق أو اغتياله.
بعض المتابعين فسر الأمر بتغيير في أسلوب تعامل النظام مع الأزمة، إما باتجاه سحب الجيش من المدن استجابة للضغط الدولي، أو باتجاه التصعيد وزيادة الضغط، أو استعداداً للأسوأ، أي لمواجهة تدخل عسكري خارجي محتمَل. فيما ذهب آخرون إلى أن هذه الحركة جزء من صراع القوى الذي بدأت بعض تفصيلاته بالتسرب إلى الإعلام الخارجي مؤخراً.
لا حاجة بنا لصرف وقت طويل في مناقشة هذه الجزئية لنرجّح الاحتمال الأخير، فمركز الثقل في العمليات العسكرية الحالية ليس في وزارة الدفاع بل في هيئة الأركان، لأنها هي المسؤولة عن إدارة العمليات العسكرية على الأرض، ورئيسها كان حتى صباح يوم الإثنين هو نفسه العماد أول داود راجحة الذي عُيّن وزيراً للدفاع. لو كان الأمر مرتبطاً بالعمليات العسكرية فالسؤال المهم سيكون: من هو رئيس هيئة الأركان الجديد الذي خلف العماد داود راجحة؟ هذا السؤال لم يهتم به أحد فيما رأيت من متابعاتي خلال اليومين الماضيين، ولم أسمع أن قيادة النظام السوري عينت شخصاً في هذا المنصب حتى الساعة، مما قد يشير إلى أن وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان ليس لهما دور كبير في الأعمال العسكرية الأخيرة أصلاً. هذا التفسير لا يبدو غريباً لأن الصورة العامة التي تكونت لنا من متابعة الحملات العسكرية على المدن السورية توحي بأن قيادتها أمنية بالأساس، لذلك لا أستبعد -فيما يخص عمليات الجيش القمعية في المدن السورية- أن تكون أهمية أي من اللواء عبد الفتاح قدسية أو اللواء جميل حسن، رئيسَي المخابرات العسكرية والمخابرات الجوية، أكبرَ بكثير من أهمية العمادَين حبيب وراجحة معاً.
إذن هل يمكن أن تكون لهذه الحادثة علاقة بأمور تجري داخل النظام؟ ربما. اليوم نُشر تقرير عن مقتل علي حبيب أشار إلى ما وصفه بالقنبلة التي فجرتها صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية قبل أسبوع حول احتمال انقلاب العلويين على نظام الحكم، حيث كشفت في تقرير لها أن العلويين يؤيد معظمُهم الرئيسَ الأسد خوفاً من المجهول، ولو أيقنوا بالأمان فإنهم يمكن أن ينقلبوا عليه. وأشارت الصحيفة إلى أن هذا الأمر ليس بعيد الاحتمال كما يعتقد كثير من المراقبين، قائلة: زعماء العلويين ليسوا غافلين عن التقوّض السريع لسلطة النظام وعجزه عن استعادة السيطرة، وإذا اطمأن قادة العلويين البارزين إلى سلامتهم فإنهم قد يشرعون في سحب تأييدهم من أسرة الأسد ويجربون حظهم مع المعارضة أو يساعدونها ضمناً، وإشارة منهم يمكن أن تقنع قادة الجيش العلويين المتنفذين بالانشقاق وأخذ ضباط آخرين معهم.
وبناء على ما سبق أكدت الصحيفة الأميركية أن العلويين إجمالاً -وليس الجيش- هم الذين بيدهم مفتاح التغيير والإسراع بإسقاط نظام الأسد، لكنهم يحتاجون إلى ضمانات من المعارضة قبل تخليهم عن الأسد. وفجّرت في هذا الصدد مفاجأة مفادها أن بعض الزعماء الدينيين العلويين حاولوا في الأسابيع الماضية التقرب إلى شخصيات دينية سنية (بما في ذلك قادة الإخوان المسلمين) للحصول على ضمانات بحماية أمنهم في حقبة ما بعد الأسد. واختتمت الصحيفة قائلة: إن السوريين من كل الأطياف بدؤوا يفهمون أن الجميع ضحية هذا النظام وأن المؤامرة الحقيقية هي التي تحيكها أسرة الأسد ويجب على قادة السنة أن يعملوا الآن لمنع الثورة من الانحدار إلى حرب أهلية بتطمين الأقليات بأنهم لن يواجهوا أعمالا انتقامية في سوريا الجديدة وهذا يمكن أن يدمج العلويين في صفوف المعارضة ويؤذن بنهاية النظام.
* * *
بقيت مسألة أخيرة قبل إنهاء هذه المقالة. ربما يتساءل البعض: هل استيقظت أميركا أخيراً؟ وهل حَنّ قلبها علينا لتقود الحملة على النظام السوري؟ والجواب هو النفي على شطرَي السؤال، فلا هي استيقظت أخيراً ولا حن علينا قلبُها قط. لقد راقبنا مواقفَ الدول العربية والغربية من ثورتنا منذ أيامها الأولى، ولم يمض وقت طويل لننسى ما كان منها خلال محنتنا الطويلة. الجميع أرادوا بقاء النظام وحاولوا دفعه باتجاه الإصلاح من الداخل. لماذا تمسكوا به ولماذا دفعوه إلى الإصلاح؟
السؤال الأول جوابه سهل. لماذا يرغب أي طرف مستفيد من النظام السوري في سقوطه؟ إسرائيل لن تجد أفضل منه ضماناً لأمن جبهتها الشمالية، وأميركا تحصل منه على كل ما تريد، وإيران تملكه ملك اليمين، وحزب الله يعيش بفضله عصره الذهبي، وتركيا تبادلت معه المصالح في مسألتَي الأكراد والعلويين، والعرب يتعاملون معه على مبدأ أشَرّ الناس من اتُّقي لشرّه… وهكذا فهو يلعب على الحبال كلها (كما نقول في تعبيرنا العامي) ويعرف كيف يرضي كل الأطراف.
السؤال الثاني جوابه أنهم أدركوا -كما أدرك كل عاقل- أن ثورة الشعب السوري ليست زوبعة في إبريق وأن السوريين لن يعودوا إلى بيوتهم قبل الحصول على حريتهم وإصلاح حياتهم السياسية والاجتماعية، فإن لم يحصلوا على ما يريدون مع بقاء النظام فسوف يحصلون عليه بقلع النظام. يبدو أن الدنيا كلها أدركت هذا الأمر البسيط إلا النظام السوري، أليس هذا من عمى البصيرة؟ الحمد لله الذي أعمى بصائرهم وطمس على قلوبهم فلا يعقلون ولا يفهمون.
إذن فإنهم (أي القوى العالمية والإقليمية) رغبوا في بقاء النظام لأنهم يستفيدون من بقائه أو لأنهم يرتاحون في بقائه، وأرادوا أن يُصلح النظام نفسه لأنهم علموا أنه لا بقاء له إلا بإصلاح نفسه. لكنهم لم يكتفوا بالرغبات؛ السياسة لا اعتبار فيها للرغبة والأمل بل للإنجاز والعمل، لذلك فإنهم مارسوا الضغط على النظام وهم يوفّرون له الغطاء، وفي الوقت نفسه فتحوا أعينهم على الشارع وراحوا يراقبون الثوار، ولو أنهم التقطوا منهم في أي وقت إشارةً توحي بأنهم في سبيلهم إلى اليأس والعودة إلى بيوتهم لخفّ ضغطهم على النظام. ولكن الشعب السوري لم يمنحهم هذه الفرصة، وبدلاً من ذلك ارتفعت مطالبه وازداد زخمه وعنفوانه حتى في أسوأ الظروف وفي أعقاب الضربات والاقتحامات. وفي لحظة ما أدرك الجميع، أو أدركت أميركا على الأقل، أن احتمال بقاء النظام وانتصاره في المعركة صار قريباً من العدم، وعندها قرروا القفز من المركب الغارق.
أنتم غيّرتم مواقف دول العالم يا ثوار سوريا الأبطال، بصبركم وثباتكم واحتمالكم العجيب، فلا منّةَ لأحد عليكم، المنّةُ لله وحده الذي أمدكم بالصبر والثبات، فله الحمد. أما أنتم يا أهل حماة فهل رأيتم عاقبة الأمور؟ لقد كانت حماقةُ النظام بضربكم هي آخرَ حماقاته، فإنه كتب بها نهايته! لقد ثأرت حماة أخيراً لنفسها ولمدن سوريا جميعاً، وبقي أن يقدَّم بشار وأخوه وعمه -سفاح حماة- إلى العدالة لتنفيذ القصاص.
مجاهد مأمون ديرانية
ختمت رسالتي السابقة بتساؤلات قلت إني سأناقشها في اليوم التالي أو الذي بعده، فجاءني تعليق من صديق عزيز يقول: بل ربما تسبقك الأحداث قبل كتابة مقالك التالي!
لقد أصاب بإحساسه بالتسارع الخارق للأحداث والتطورات، ولكني لن أكون بطيئاً لهذه الدرجة، فالتطورات الكبيرة تحتاج إلى بعض الوقت. بتقديري فإننا يجب أن ننتظر ما بين أسبوع وأسبوعين، هذا من حيث الزمن، أما ما سيحدث بعد هذا الوقت القصير (نسبياً) فأتوقع أن يكون مفاجأة من العيار الثقيل؛ تطوراً حاسماً جداً وكبيراً جداً في الأزمة السورية، إما أن يضع نهاية سريعة جداً للنظام ويفضي إلى انتصار حاسم للثورة، أو يقود إلى فترة انتقالية صعبة وطويلة. لا أرى حلاً وسطاً بينهما، وأتمنى أن تكون الأولى، فليس بعيداً على الله أن يستجيب دعوات ملايين المؤمنين في سوريا وفي أصقاع الأرض كافة في هذا الشهر المبارك.
* * *
والآن لنكمل من حيث انتهينا في الرسالة الماضية، ولنبدأ باستعراض ما صدر من مواقف دولية جديدة لنضيفه إلى القائمة التي ضمّت ستة عشر موقفاً:
(17) الكويت استدعت سفيرها في دمشق للتشاور.
(18) البحرين استدعت سفيرها في دمشق للتشاور.
(19) أعاد وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل تأكيد موقف بلاده: السعودية تقف صفاً واحداً بجانب الشعب السوري (لا تنسوا أن بيانات الخارجية تُصاغ بعناية، ولاحظوا هنا استعمال كلمة “الشعب السوري” بشكل مقصود وواضح الدلالة).
(20) أعلن وزير خارجية الكويت أن وزراء خارجية مجلس التعاون الخليجي سيجتمعون قريباً للبحث الوضع في سوريا (في وقت لاحق حُدِّد الرابع عشر من هذا الشهر موعداً للاجتماع).
(21) الحكومة الماليزية أعلنت عن سحب سفيرها من سوريا وطرد السفير السوري من أراضيها.
(22) الخارجية الأميركية: المواقف العربية توضح صدمة دول العالم من وحشية النظام السوري.
(23) الخارجية الفرنسية أصدرت تصريحاً صارم اللهجة: وقت الإفلات من العقاب ولّى بالنسبة لدمشق.
(24) وكالة أنباء الأناضول: مسؤول أميركي كبير يصل أنقرة لبحث آخر التطورات في سوريا.
(25) عقد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان اجتماعاً استثنائياً مع رئيس هيئة أركان الجيش الجنرال نجدت أوزال ووزراء الخارجية والدفاع والداخلية لبحث التطورات الجارية في سوريا.
(26) وزير خارجية مصر: مصر تتابع بقلق شديد التدهور الخطير للأوضاع في سوريا، وسوريا تتجه إلى نقطة اللاعودة.
(27) نطق الأزهر الذي لم يُسمَع منه أي صوت قبل ذلك: الأمر جاوز الحد في سوريا ولا بد من وضع حد لهذه المأساة.
(28) اجتماع عاجل لهيئة كبار العلماء في السعودية في مكة المكرمة لاستصدار نداء إسلامي عالمي موحد يندد بالمجازر التي يقوم بها النظام السوري.
(29) وأخيراً تمت الزيارة المرتقبة لوزير الخارجية التركي إلى دمشق، اللقاء مع القيادة السورية كان طويلاً واستمر لنحو ست ساعات، ثلاث منها كانت بين داود أوغلو والأسد منفردَين، ولم يُعرف أي خبر مؤكد عن نتائج الزيارة حتى كتابة هذه الكلمات. (توضيح: وأنا في المراحل الأخيرة من كتابة هذه الرسالة عقد الوزير التركي مؤتمراً صحفياً تحدث فيه عن زيارته دون أن يقدم الكثير. التقطت المحطات كلماته المهمة وركزت عليها، أما أنا فوجدت أن الكلمة المفتاحية في كلامه هي قوله إن مصير سوريا سيحدده الشعب السوري في الشارع، وهي عبارة موحية جداً).
(30) أذاعت وكالات الأنباء قبل قليل نقلاً عن مصادر دبلوماسية: الرئيس التركي يزور السعودية يوم السبت، ووفد أردني يزور السعودية يوم الأحد.
* * *
عندما نضم القائمة الجديدة من المواقف الدولية إلى القائمة السابقة ونقرأ المواقف الثلاثين معاً فسوف يتبادر إلى أذهاننا على الفور استنتاج واحد: إنهم يقرعون طبول الحرب!
لكن هل هذا ممكن؟ هل يمكن أن يقود المجتمع الدولي حملة عسكرية على سوريا كتلك التي نفذها حلف الناتو في ليبيا؟ فأما أنه ممكن فنعم، فلا نستطيع الجزم باستحالة أي احتمال في عالم السياسة الدولية، ولكن لا بد أن نؤكد على أنه مستبعَد جداً. وعلى أية حال فنحن لسنا مضطرين لحصر السيناريو الممكن بالشكل الليبي، فالاحتمالات أوسع من ذلك، ولنناقشها بالتفصيل:
(1) تدخل عسكري أممي
نظراً للسابقة الليبية فإن بعض الكتّاب يتحدثون عن احتمال مشابه، بل إن جريدة السياسة الكويتية نشرت اليوم تفاصيل خطة عسكرية قالت إن حلف الناتو أعدّها لضرب سوريا، وإن دبلوماسياً روسياً هو مَن كشفها مؤخراً. أنا أعتبر أن هذا كله من باب الظنون والأوهام أو أنه اختراعات لا أصل لها.
أعترف بأن هذا الخيار محتمَل، ولكنه ضئيل جداً جداً جداً، لسببين على الأقل: أولهما أن تدخلاً دولياً من هذا النوع يحتاج إلى غطاء قانوني عبر موافقة أحد طرفَي النزاع، ومن البديهي أن النظام لن يطلب من الغرب التدخل لضربه، فماذا عن المعارضة؟ هنا الخبر الجيد. لقد أظهرت المعارضة السورية تماسكاً عجيباً في إصرارها على ثوابت أربعة لم تتنازل عنها مقدارَ أنملة رغم المِحَن والآلام: السلمية ورفض العنف، والوحدة الوطنية ورفض الطائفية، والتمسك بوحدة سوريا واستقلالها على كامل التراب السوري، ورفض التدخل العسكري الخارجي. هذه الأصول الأربعة اتفق عليها الثوار في الداخل والمعارضون في الخارج بإجماع وثبات غير قابلَين للنقاش.
السبب الثاني: لأن حجم القوات العسكرية السورية أضخم بكثير من القوات الليبية. صحيح أن جيشنا غير مؤهَّل لخوض حرب حقيقية، ولكنْ لا بد -في كل الأحوال- من تدمير قوته القتالية في حالة مواجهة عسكرية مفتوحة، وإذا ما أخذنا بالاعتبار الزمن الذي لزم لتدمير الآلة العسكرية الليبية فإن قوة خارجية مشابهة لقوات الناتو التي تدخلت في ليبيا تحتاج إلى ثلاث سنوات لتدمير الآلة العسكرية السورية!
(2) تغيير النظام بانقلاب عسكري
هذا الاحتمال وارد بنسبة عالية (ربما عشرين إلى ثلاثين بالمئة) ولكنه ليس مرجَّحاً، لأن المؤسسة العسكرية السورية مقفَلة في طبقاتها العليا على ضباط موالين للنظام بشكل شبه مطلق، من البعثيين الخُلّص أو من أبناء الطائفة العلوية المتحالفين مع الأسرة الحاكمة. وحتى لو أمكن تجاوز هذه العقبة عبر اختراق لبعض الشخصيات العسكرية الكبيرة (وهذا ليس مستحيلاً) فإن القيد الأمني على المؤسسة العسكرية شديد جداً وتشارك فيه المخابرات العسكرية والجوية والمخابرات العامة والشرطة العسكرية بتداخل عجيب. ثم إن الشارع -وهذا هو الأهم- لن يرحب بتغيير من هذا النوع ولن يثق به، وعلى الأغلب فإن الثورة الشعبية لن تتوقف في مثل هذه الحالة.
(3) اختراق النظام
إن العمل العسكري مكلف كثيراً بسبب الحجم الكبير للقوات المسلحة السورية بأسلحتها البرية والجوية والصاروخية، لذلك لن يكون خياراً محتمَلاً حتى لو وافقت عليه المعارضة (وهي لن توافق)، وبدلاً منه ربما يتم إسقاط النظام عبر اختراقه. هل تتذكرون حرب العراق؟ لقد صمدت قوةٌ صغيرة ربما لم تبلغ مئةَ جندي نحو أسبوع في ميناء أم قصر الصغير، فظننّا -بالقياس- أن الجيش الأميركي الغازي سوف يستغرق ستة أشهر للوصول إلى بغداد، ولكنه وصلها في ست ساعات! كيف؟ بالخيانات. لقد اخترق الأميركيون القيادات العراقية واشتروا كثيراً منهم فحيدوهم من المعركة وانفردوا بقوات الصفوة التي باعت نفسها لصدّام (كما باع قومٌ عندنا أنفسهم للأسد! الديانة نفسها، عبادة الأفراد وصناعة الطواغيت، لا فرق بين الأسد وصدام وعبد الناصر وماو وهتلر وموسوليني وستالين… آلهة زائفة من صنع البشر. ليس هذا موضوعي اليوم فلن أستفيض فيه، ولو أني تركت للقلم العنانَ لكتبتُ فيه مجلداً من الحجم الكبير)!
اختراق النظام يمكن أن ينجح في فصل الرأس عن الجسد، فلو وصل الضغط على بشار الأسد إلى درجة تكفي لحمله على التنحي ومغادرة البلاد، وترافق هذا “الهروب” مع سقوط بعض القيادات الكبرى، إما باغتيال أو باقتتال داخلي (مقتل العماد حبيب مثال محتمَل لاقتتال من هذا النوع) أو بخيانة واستسلام أو بهروب إلى الخارج أو إلى مناطق معزولة داخل البلاد… لو حصل هذا فإن النظام كله يمكن أن يتفكك ويتهاوى سريعاً مع انتشار حالة من الذعر في أوساط القيادات الوسطى، ولا يُستبعد أن تنتهي “الدولة” إلى حالة فراغ مشابهة لتلك التي شهدناها في العراق غداة الغزو الأميركي.
الاختراق بالصورة السابقة يحتاج إلى إعداد طويل، ولا أستبعد أن يكون قد قُطع فيه شوطٌ مهم خلال الشهرين الماضيين. وهو قد ينجح بسرعة إذا أُحسن ترتيبه وتهيأت له الظروف المناسبة، وقد يستغرق وقتاً طويلاً ويستدعي تدخلاً عسكرياً محدوداً تنفذه قوات خاصة لدعم كيان عسكري منشق. وفي هذه الحالة لا بد من توفر مجموعة من الشروط: (أ) موافقة من جهة تمثل المعارضة السورية. (ب) الاعتراف الخارجي بمجموعة عسكرية منشقة. (ج) موافقة دولة حدودية على عمل عسكري محدود لإنشاء منطقة آمنة. (د) غطاء عربي ودولي.
ما هي فرصة توفر الشروط السابقة؟
(أ) الفترة الماضية شهدت محاولات عدة لتشكيل جهة رسمية يمكن أن تنطق باسم الثورة. المحاولات الأولى أثبتت بسرعة وبشكل حاسم أن أي مبادرة تتجاهل الثوارَ في الداخل ستولد ميتة، وصار واضحاً أن الضامن الوحيد لنجاح مبادرة من هذا النوع هو ولادتها من الداخل لا من الخارج، ومن هنا جاءت تلك الفكرة العجيبة بعقد مؤتمر الإنقاذ الوطني في سوريا والخارج معاً لانتحاب هيئة تنفيذية أو حكومة ظل، بغض النظر عن التسميات، المهم هو الخروج بهيئة يمكنها أن تتصل بالعالم الخارجي وتنطق باسم الثورة السورية دون اعتراض أحد من القوى الثورية.
لو سألوني قبل الإعلان عن المؤتمر بيوم واحد عن الشخصية المُثلى لرئاسة المؤتمر المقترَح لما ترددت في ترشيح شيخ الثوار هيثم المالح، وكذلك سيفعل أكثرُ من يمكن أن يُسأل والله أعلم، فهو أكثر الشخصيات قبولاً في الداخل والخارج؛ ومع ذلك كنت سأشك في فرصته في مغادرة سوريا للمشاركة في المؤتمر. ولكنه خرج! كيف خرج؟ لقد أرّقني هذا اللغز لبعض الوقت وأزعجني أيضاً، فقد كان من الاحتمالات التي وضعتها أن يكون المالح مشاركاً في مخطط شرير ينفذه النظام، وقلت في نفسي: لعلهم هددوه بقتل أولاده أو بما هو أكثر من ذلك، فهؤلاء المجرمون لا حدودَ لإجرامهم.
لقد كانت ثقتي كبيرة بالأستاذ المالح دائماً ولم أحب فكرة استغلاله من قبل النظام، أما الآن فإني أجد تفسيراً أفضل للغز خروجه من سوريا. لقد كانت الحاجة إليه ماسّة ليشارك بشخصه ويَلُمّ شعث المعارضة ويجمعها لانتخاب هيئة تمثلها، أفلا يمكن أن يكون الأميركيون أو الأتراك قد ضغطوا على النظام لضمان سلامته والسماح له بمغادرة سوريا؟ هذا ممكن جداً، فإن النظام السوري علّمنا دائماً أنه لا يخاف من شعبه ولا من الله، ولكنه يخاف من أميركا ويحسب لها أكبر الحسابات، ومن قرأ ما كُتب عن التاريخ السري للعلاقات بين سوريا الأسد وأميركا فلن يصدق القصص والأخبار لغرابتها، ولكنها حقائق، وليس هنا محل الاستفاضة في هذا الموضوع فمن شاء فليقرأ عنه في مصادره.
بغض النظر عن ملابسات خروج هيثم المالح من سوريا فقد خرج أخيراً، وعُقد المؤتمر، وكان الرجل مستميتاً لانتخاب قائمة شخصيات تمثل المعارضة. كل هذا يعرفه من تابع أخبار المؤتمر فلا حاجة لإعادته هنا. المهم أن المؤتمر انتخب قائمة؛ لقد وُلدت أخيراً هيئة رسمية يمكن أن تنطق باسم الثورة، وتخطينا العقبة الأولى.
(ب) العقبة الثانية يمكن تجاوزها سريعاً. لقد أُعلن عن ولادة لواء الضباط الأحرار بقيادة مقدم، ثم تلاه إعلان الجيش السوري الحر بقيادة عقيد، وهي رتب جيدة للقيام بالدور المطلوب، لكن لن نستغرب أن ينشقّ قريباً عميدٌ أو لواء لمنح الكيان العسكري المنشق قوة إضافية. الجيش السوري يعلن باستمرار عن عمليات تنفذها كتائبه الميدانية في حمص وحماة ودير الزور وغيرها، وهي عمليات صغيرة أقرب إلى حرب العصابات، لكنها قابلة للتطور إذا انشقت تشكيلات إضافية، وهذا الاحتمال يزيد إذا وُجدت منطقة آمنة ووُجد اعتراف خارجي بهذا الجيش. هل يمكن أن يحصل الجيش الحر أو أي تشكيل عسكري منشق على اعتراف من الخارج؟ بالنظر إلى التطورات الأخيرة فإن الجواب هو “نعم”. هؤلاء المنشقون موجودون على الأرض في سوريا أو على الأرض التركية، وربما جرت معهم اتصالات خلال الأسابيع القليلة الماضية… وهكذا تُحَلّ العقبة الثانية.
(ج) هل يمكن أن توافق تركيا أو الأردن على المشاركة في عمل عسكري محدود أو على فتح الحدود وتشكيل منطقة آمنة بعمق كاف على الأراضي السورية؟ يبدو أن الجواب أيضاً هو “نعم”. لقد شارك الأردنيون في الحراك السياسي الذي شهدته المنطقة خلال الأسابيع الخمسة الماضية على مستوى رأس الدولة، فالتقى الملك عبد الله الثاني في جدة بالملك عبد الله بن عبد العزيز، ولا يستبعد أن يكون الملف السوري هو سبب اللقاء وإن لم يُعلَن شيء عن هذا في حينه، كما أن إدانة وزير الخارجية الأردني للعنف في سوريا كانت سريعة جداً بعد خطاب الملك السعودي، وكأنها رَجْع الصدى. وأخيراً سرّبت بعض المصادر خبراً يشير إلى أن الملك الأردني عبد الله الثاني يجري حالياً مباحثات حثيثة مع قادة المملكة العربية السعودية لما بعد بشار الأسد، والله أعلم بصحة هذا الخبر.
ربما اقتصر العمل العسكري المحدود على الاستعانة بقوات خاصة خارجية تقتصر مهمتها على تنفيذ عمليات خاصة محدودة لضرب شخصيات محورية في النظام أو منشآت أمنية وعسكرية أو سياسية ذات أهمية إستراتيجية (قد تكون فرق عمليات خاصة أميركية أو تركية، أو حتى عربية، وهنا ربما يأتي دور افتراضي آخر للمشاركة الأردنية في الحملة على النظام).
أما تركيا فقد قطعت شوطاً أطول بكثير، فمنذ أحداث جسر الشغور نُشرت أنباء عن استعداد تركي لعمل عسكري، وقيل وقتها إن الخطط موجودة بيد قادة الوحدات التي ستنفذها، ولا يُستبَعد أن تكون القيادة السياسية والقيادة العسكرية في تركيا قد توصلتا إلى اتفاق على عمل عسكري محدود في ذلك الوقت إلا أن عدم الحصول على الغطاء الدولي عطل تنفيذ المشروع. وهكذا يمكن تجاوز العقبة الثالثة.
(د) العقبة الرابعة يجري تجاوزها بسرعة، حيث نشهد -فيما يبدو- جهوداً متسارعة لتطبيق عزل دولي كامل على النظام السوري. مجلس التعاون الخليجي يقود المبادرة هذه المرة وليس الجامعة كما حصل في ليبيا؛ المجلس سيعقد اجتماعاً طارئاً على مستوى وزراء الخارجية بعد خمسة أيام، ويمكن لمثل هذا الاجتماع أن يتمخض عن قرارات حاسمة جداً تحت غطاء التصريح الملكي السعودي. هذا الغطاء نفسه يمكن أن تتحرك تحته دولٌ عربية وإسلامية بالتنسيق مع دول غربية، وصولاً إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، لنزع الشرعية عن النظام السوري دولياً وإقصاء سوريا عن الأمم المتحدة وجميع المنظمات الدولية، وربما تقديم ملف جرائم النظام إلى محكمة العدل الدولية. إذا تطورت الأمور بهذا الشكل فسوف يصبح النظام السوري -قانونياً- عصابة مغتصبة للبلد يجوز للمجتمع الدولي محاربتها وتخليص سوريا منها بكل الوسائل المتاحة.
كل هذه التطورات ملفتة للانتباه، لكن أكثرها إثارة هو موقف روسيا التي تخلت عن النظام السوري أخيراً، وهذا أمر لا يمكن أن يتم ببراءة الأطفال. لا علم لي بما حصل وراء الكواليس (أليس اسمها “وراء الكواليس”؟) ولكن أخمّن فقط أن الروس قد حصلوا على صفقة من نوع ما مقابل السكوت، وربما مقابل ما هو أكثر من السكوت. في هذه الأثناء يلوذ الإيرانيون بالصمت، فهل حصلت إيران أيضاً على صفقة؟ ربما، وإذا كان الأمر كذلك فإني أدعو الله أن لا يكون العراق جزءاً من الصفقة، وأن تقتصر على ترتيبات إيرانية داخلية أو حل بعض المشكلات المتعلقة بالملف النووي الإيراني (رفع بعض العقوبات أو تخفيف العزلة الدولية مثلاً).
اللاعب الوحيد الذي سيخرج بلا مكاسب ولا صفقات هو حزب الله، وهو الخاسر الأكبر مع النظام السوري، فقد كشفت الثورة السورية سَوأة الحزب وأظهرت حقيقته الكالحة للناس، وسوف يخسر كل ما كان يتلقاه من دعم من النظام السوري، ويخسر العمق الإستراتيجي والنفوذ الأمني. لا شك أن هذا واحد من أسوأ أيام الحزب وأنه يعيش كابوساً مريراً ولا يعرف كيف سيتجاوز أزمته، ولا أستبعد أن يسقط في لبنان مع سقوط النظام الحالي في سوريا.
* * *
ألا توجد احتمالات أخرى؟ بالطبع لا بد من وجود عدد غير محدد من الاحتمالات، لكني تحدثت عن أشكال الحل الأكثر تداولاً في الأروقة السياسية أو الأقرب إلى إمكانية حسم الأزمة، ومن بينها يبدو لي أن الأخير هو الأكثر ترجيحاً. ولعل في التطورات الداخلية السورية ما يدعمه:
لقد حصرنا في أول المقالة المواقف والتطورات الخارجية، ولكن ماذا عن الداخل؟ هنا تصبح الأمور أصعب، فإن النظام السوري يحيط نفسه بطبقات من التكتم ويعيش في صندوق مغلق، ومن ثم فإننا لا نحصل إلا على تسريبات وشائعات غير موثقة ولا يُعتمَد عليها في تقويم الموقف. إن الحديث عن خلافات بين الرؤوس الكبيرة في النظام ليس جديداً وقد بدأ مع بداية الثورة، ولكن المرء لا يستطيع الجزم بما يحصل في بيت جاره القريب الذي يقابل بابُه بابَه، فكيف نستطيع الجزم بوجود خلافات بين ماهر وبشار أو أنيسة وأسماء؟ حسناً، لن نعتمد على ما يُشاع ولكن يمكننا تتبع ما يُذاع من أخبار موثقة، ولا سيما حينما تصدر عن النظام ذاته، وقد قدم لنا أخيراً خبرين مثيرين لهما دلالة كبيرة.
الأول هو خبر منع العميد في الحرس الجمهوري ذي الهمة شاليش من السفر وتعميم اسمه على إدارة الهجرة والجوازات وكافة المنافذ الحدودية البرية والجوية. شاليش هو ابن عمة بشار ومرافقه الشخصي، وكان مرافقاً شخصياً لحافظ الأسد من قبل وله نفوذ كبير في الدولة. الثاني هو الخبر المثير عن وزير الدفاع العماد علي حبيب، حيث فاجأنا الإعلام السوري أمس، الإثنين، بإذاعة خبر مقتضب يفيد بتعيين العماد داود راجحة وزيراً للدفاع خلفاً للعماد علي حبيب دون ذكر تفاصيل، مكتفياً بتعليل الأمر بمرض علي حبيب منذ بعض الوقت كما قال البيان، ثم تتابعت أخبار لاحقة تحدثت عن مقتل الوزير السابق أو اغتياله.
بعض المتابعين فسر الأمر بتغيير في أسلوب تعامل النظام مع الأزمة، إما باتجاه سحب الجيش من المدن استجابة للضغط الدولي، أو باتجاه التصعيد وزيادة الضغط، أو استعداداً للأسوأ، أي لمواجهة تدخل عسكري خارجي محتمَل. فيما ذهب آخرون إلى أن هذه الحركة جزء من صراع القوى الذي بدأت بعض تفصيلاته بالتسرب إلى الإعلام الخارجي مؤخراً.
لا حاجة بنا لصرف وقت طويل في مناقشة هذه الجزئية لنرجّح الاحتمال الأخير، فمركز الثقل في العمليات العسكرية الحالية ليس في وزارة الدفاع بل في هيئة الأركان، لأنها هي المسؤولة عن إدارة العمليات العسكرية على الأرض، ورئيسها كان حتى صباح يوم الإثنين هو نفسه العماد أول داود راجحة الذي عُيّن وزيراً للدفاع. لو كان الأمر مرتبطاً بالعمليات العسكرية فالسؤال المهم سيكون: من هو رئيس هيئة الأركان الجديد الذي خلف العماد داود راجحة؟ هذا السؤال لم يهتم به أحد فيما رأيت من متابعاتي خلال اليومين الماضيين، ولم أسمع أن قيادة النظام السوري عينت شخصاً في هذا المنصب حتى الساعة، مما قد يشير إلى أن وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان ليس لهما دور كبير في الأعمال العسكرية الأخيرة أصلاً. هذا التفسير لا يبدو غريباً لأن الصورة العامة التي تكونت لنا من متابعة الحملات العسكرية على المدن السورية توحي بأن قيادتها أمنية بالأساس، لذلك لا أستبعد -فيما يخص عمليات الجيش القمعية في المدن السورية- أن تكون أهمية أي من اللواء عبد الفتاح قدسية أو اللواء جميل حسن، رئيسَي المخابرات العسكرية والمخابرات الجوية، أكبرَ بكثير من أهمية العمادَين حبيب وراجحة معاً.
إذن هل يمكن أن تكون لهذه الحادثة علاقة بأمور تجري داخل النظام؟ ربما. اليوم نُشر تقرير عن مقتل علي حبيب أشار إلى ما وصفه بالقنبلة التي فجرتها صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية قبل أسبوع حول احتمال انقلاب العلويين على نظام الحكم، حيث كشفت في تقرير لها أن العلويين يؤيد معظمُهم الرئيسَ الأسد خوفاً من المجهول، ولو أيقنوا بالأمان فإنهم يمكن أن ينقلبوا عليه. وأشارت الصحيفة إلى أن هذا الأمر ليس بعيد الاحتمال كما يعتقد كثير من المراقبين، قائلة: زعماء العلويين ليسوا غافلين عن التقوّض السريع لسلطة النظام وعجزه عن استعادة السيطرة، وإذا اطمأن قادة العلويين البارزين إلى سلامتهم فإنهم قد يشرعون في سحب تأييدهم من أسرة الأسد ويجربون حظهم مع المعارضة أو يساعدونها ضمناً، وإشارة منهم يمكن أن تقنع قادة الجيش العلويين المتنفذين بالانشقاق وأخذ ضباط آخرين معهم.
وبناء على ما سبق أكدت الصحيفة الأميركية أن العلويين إجمالاً -وليس الجيش- هم الذين بيدهم مفتاح التغيير والإسراع بإسقاط نظام الأسد، لكنهم يحتاجون إلى ضمانات من المعارضة قبل تخليهم عن الأسد. وفجّرت في هذا الصدد مفاجأة مفادها أن بعض الزعماء الدينيين العلويين حاولوا في الأسابيع الماضية التقرب إلى شخصيات دينية سنية (بما في ذلك قادة الإخوان المسلمين) للحصول على ضمانات بحماية أمنهم في حقبة ما بعد الأسد. واختتمت الصحيفة قائلة: إن السوريين من كل الأطياف بدؤوا يفهمون أن الجميع ضحية هذا النظام وأن المؤامرة الحقيقية هي التي تحيكها أسرة الأسد ويجب على قادة السنة أن يعملوا الآن لمنع الثورة من الانحدار إلى حرب أهلية بتطمين الأقليات بأنهم لن يواجهوا أعمالا انتقامية في سوريا الجديدة وهذا يمكن أن يدمج العلويين في صفوف المعارضة ويؤذن بنهاية النظام.
* * *
بقيت مسألة أخيرة قبل إنهاء هذه المقالة. ربما يتساءل البعض: هل استيقظت أميركا أخيراً؟ وهل حَنّ قلبها علينا لتقود الحملة على النظام السوري؟ والجواب هو النفي على شطرَي السؤال، فلا هي استيقظت أخيراً ولا حن علينا قلبُها قط. لقد راقبنا مواقفَ الدول العربية والغربية من ثورتنا منذ أيامها الأولى، ولم يمض وقت طويل لننسى ما كان منها خلال محنتنا الطويلة. الجميع أرادوا بقاء النظام وحاولوا دفعه باتجاه الإصلاح من الداخل. لماذا تمسكوا به ولماذا دفعوه إلى الإصلاح؟
السؤال الأول جوابه سهل. لماذا يرغب أي طرف مستفيد من النظام السوري في سقوطه؟ إسرائيل لن تجد أفضل منه ضماناً لأمن جبهتها الشمالية، وأميركا تحصل منه على كل ما تريد، وإيران تملكه ملك اليمين، وحزب الله يعيش بفضله عصره الذهبي، وتركيا تبادلت معه المصالح في مسألتَي الأكراد والعلويين، والعرب يتعاملون معه على مبدأ أشَرّ الناس من اتُّقي لشرّه… وهكذا فهو يلعب على الحبال كلها (كما نقول في تعبيرنا العامي) ويعرف كيف يرضي كل الأطراف.
السؤال الثاني جوابه أنهم أدركوا -كما أدرك كل عاقل- أن ثورة الشعب السوري ليست زوبعة في إبريق وأن السوريين لن يعودوا إلى بيوتهم قبل الحصول على حريتهم وإصلاح حياتهم السياسية والاجتماعية، فإن لم يحصلوا على ما يريدون مع بقاء النظام فسوف يحصلون عليه بقلع النظام. يبدو أن الدنيا كلها أدركت هذا الأمر البسيط إلا النظام السوري، أليس هذا من عمى البصيرة؟ الحمد لله الذي أعمى بصائرهم وطمس على قلوبهم فلا يعقلون ولا يفهمون.
إذن فإنهم (أي القوى العالمية والإقليمية) رغبوا في بقاء النظام لأنهم يستفيدون من بقائه أو لأنهم يرتاحون في بقائه، وأرادوا أن يُصلح النظام نفسه لأنهم علموا أنه لا بقاء له إلا بإصلاح نفسه. لكنهم لم يكتفوا بالرغبات؛ السياسة لا اعتبار فيها للرغبة والأمل بل للإنجاز والعمل، لذلك فإنهم مارسوا الضغط على النظام وهم يوفّرون له الغطاء، وفي الوقت نفسه فتحوا أعينهم على الشارع وراحوا يراقبون الثوار، ولو أنهم التقطوا منهم في أي وقت إشارةً توحي بأنهم في سبيلهم إلى اليأس والعودة إلى بيوتهم لخفّ ضغطهم على النظام. ولكن الشعب السوري لم يمنحهم هذه الفرصة، وبدلاً من ذلك ارتفعت مطالبه وازداد زخمه وعنفوانه حتى في أسوأ الظروف وفي أعقاب الضربات والاقتحامات. وفي لحظة ما أدرك الجميع، أو أدركت أميركا على الأقل، أن احتمال بقاء النظام وانتصاره في المعركة صار قريباً من العدم، وعندها قرروا القفز من المركب الغارق.
أنتم غيّرتم مواقف دول العالم يا ثوار سوريا الأبطال، بصبركم وثباتكم واحتمالكم العجيب، فلا منّةَ لأحد عليكم، المنّةُ لله وحده الذي أمدكم بالصبر والثبات، فله الحمد. أما أنتم يا أهل حماة فهل رأيتم عاقبة الأمور؟ لقد كانت حماقةُ النظام بضربكم هي آخرَ حماقاته، فإنه كتب بها نهايته! لقد ثأرت حماة أخيراً لنفسها ولمدن سوريا جميعاً، وبقي أن يقدَّم بشار وأخوه وعمه -سفاح حماة- إلى العدالة لتنفيذ القصاص.